تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
[email protected]
لاحظت أن العديد من المعارف خاصة ممن ينتمون لتيارت الإسلام السياسي “,”يترفعون“,” عن الاطلاع المباشر على ما يختلف مع توجهاتهم الفكرية مكتفين بمتابعة ما يرونه متفقًا مع رؤيتهم، مولّين ظهورهم لغير ذلك من مصادر الرأي والخبر، ووجدتني بالمقابل أميل إلى إعطاء الأولوية في الاطلاع لما يبدو متعارضًا مع قناعاتي الفكرية والسياسية بل والدينية أيضًا.
لقد حاولت – و ما زلت- الاطلاع على كتابات العقائديين من اليهود والمسيحيين والبهائيين والبوذيين والماركسيين بألوانهم والملاحدة بأطيافهم والفاشيين والصهاينة؛ فضلاً عن كتابات المفكرين المسلمين من الشيعة والسنة، ولا أدعي بذلك حاشاي أنني أحطت بكل تلك المعارف أو حتى ببعضها إحاطة المتخصص، فلست سوى مجتهد في مجال علم النفس السياسي، ولكني وددت أن أؤكد أن اطلاعي على تلك المصادر رغم تناقض منطلقاتها لم تثر لدي فزعًا انفعاليًا أو رجفة عقائدية بقدر ما أسهمت في تكويني الفكري.
ولعل ما رسخ لدي هذا الاتجاه ما لقيته حين التحقت بقسم الدراسات النفسية والاجتماعية بكلية الآداب جامعة عين شمس عام 1954 وبدأت في تلقي دروسي الأولى على أستاذنا الدكتور مصطفى زيور الذي أسس ما أطلق عليه وبحق زميلنا الراحل الدكتور لطفي فطيم “,”مدرسة عين شمس في علم النفس“,”.
كان زيور مؤمنًا بالحرية الأكاديمية وما يرتبط بها من حرية سياسية، وقد انعكست ليبراليته السياسية في احتضانه ومساندته لأبنائه الذين استضافتهم السجون والمعتقلات السياسية المصرية بتهم الانتماء إلى تيارات متباينة من تيار الإخوان المسلمين إلى التيار الشيوعي، والذين يشكلون مجموعة تستوقف النظر من أوائل خريجي قسم علم النفس أذكر منهم: أحمد فائق، ورءوف حلمي، وحسين عبدالقادر، ومحمود الأنصاري، وعبدالقادر شاهين، ولطفي فطيم، وكاتب هذه السطور، لقد احتضننا زيور جميعًا في وقت كانت فيه مجرد شبهة التمرد على النظام كفيلة بالفرار من صاحبها وتجنبه تجنب السليم للأجرب.
وتجلت ليبراليته الأكاديمية – إذا ما صح التعبير- في أنه أرسى دعائم “,”مدرسة عين شمس“,” على ما يمكن أن يسمى بالانفتاح على التناقص، لقد جمع زيور باقتدار معجز بين التزام المحلل النفسي الفرويدي، وانطلاقة المفكر الليبرالي، وانفتاح رجل العلم الحق على المختلفين معه، وترفعه عن الدعوة إلى إسقاط الشرعية العلمية عنهم، وحرص زيور على ألا ينغلق القسم على مريديه وزملائه من أصحاب التحليل النفسي، وما كان أيسر ذلك عليه لو أراد، ومن ثم فقد أتى لنا بجمع متباين من صفوة المتخصصين في فروع من علم النفس أبعد ما تكون عن التحليل النفسي الذي كنا نتلقى دروسه على يدي الأستاذ الرائد؛ ولم يكن بد والمناخ كذلك من أن نحس تناقضًا فيما نتلقى من علم، وأن نستشعر قلقًا حيال غموض هوية علمنا، بل وأن نعاني اغترابًا في ذلك الجانب من هويتنا، التي تتحدد بهوية تخصصنا العلمي والمهني، ولم نكن آنذاك بقادرين على فهم هذا التناقض واستيعابه، وتفرقت بنا السبل حيال مواجهته: البعض منا استسلم لاغترابه منتهيًا إلى أن كل شيء كأي شيء وأنه لا علم هناك على الإطلاق، وآثر البعض أن يهب نفسه كلية لتوجه معين مغلقًا آذانه وعينيه ومن ثم عقله على غير تلك الاتجاهات، وإذا لم يجد بدًا من التعرف عليها فلينظر لها من خلال رؤية أصحاب الاتجاه الذي ارتضاه لنفسه وانغلق عليه؛ وعاش البعض اغترابه وعايش قلقه في مسيرة لا نهاية لها للبحث عن الحقيقة في العلم والسياسة والدين والحياة، وكنت من ذلك الفريق الذي كان وما زال يجد في هذا النوع المشقة متعة لا تعادلها متعة.
إن انغلاق المرء على ما يثق فيه ويتفق مع توجهاته يكون بطبيعة الحال باعثًا على الطمأنينة والارتياح، وقد يخلق لديه وهمًا بأن ما يعتقده هو عقيدة غالبية البشر، وأن من يرون غير رأيه ليسوا سوى قلة من الضالين، ولكن ذلك لا يمكن أن يتيح له اقترابًا من الحقيقة؛ فثمة جانب من الحقيقة لا بد من التماسه فيما يقوله الآخرون لتكتمل الصورة أو تقترب من الاكتمال، ولو شئنا نموذجًا عمليًا فيكفي أن ننظر إلى المصادر الإعلامية المتاحة من صحف وتليفزيون فضلاً عن الإنترنت، ليتضح لنا بجلاء نسبية الحقيقة فيما يصلنا من كل مصدر، قد يكون المصدر محترمًا بمعنى أنه لا يتدنى لاختلاق الوقائع ولكن من الطبيعي أن يركز على ما يراه هامًا، مهملاً ما يعتبره استثناءات وتفاصيل تافهة، في حين أن مصدرًا آخر لا يقل عنه احترامًا ونزاهة يرى في تلك “,”الاستثناءات التافهة“,” ما هو الأجدر بالاهتمام، ومن ثم فعلى الباحث عن الحقيقة أن يلملمها من هنا وهناك، رغم ما في ذلك من عناء.
خلاصة القول.. إن الاطلاع على الفكر المخالف يكفل للمرء رؤية أدق للحقيقة، ويزيد طمأنينته لما يعتقده الأصوب، كما يكفل له جدارًا يقيه من التعصب والانغلاق، وأن الحقيقة الناقصة التي تخلق طمأنينة زائفة، أشد خطرًا من جهل قد يدفع المرء إلى السعي لاستكمال معرفته.