تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
لسنا وحدنا الذين نمر بمرحلة انتقالية، فالعالم من حولنا يشهد تحولات موازية على أصعدة مختلفة ودوائر متعددة، والأسئلة تسابق الإجابات ولا تنتظرها، وخارطة العالم تشهد اندماجات يقابلها تفككات، كيانات تولد وثوابت تتحلل، لم تعد الأيديولوجيات هي محل الصراع، بل هناك من يقول بمواتها، بعد أن أخلت الثورة الصناعية مواقعها بكل ما لحقها من تشابكات وتصادمات عناصر الإنتاج وإشكاليات توزيع الثروة والسلطة، وتماهت التقسيمات التقليدية "يسار" و"يمين"، فلم يعد مستغربًا أن نجد دولًا تحسب حصنًا للشيوعية تعتمد آليات السوق وتقفز باقتصادها لتهدد عروش مغرقة في الرأسمالية، بينما الأخيرة تشهد كيانات سياسية ضاغطة تطالبها بدور أكثر فاعلية لتدخل الدولة في ضبط حركة السوق والالتفات للطبقات العاملة والفقيرة.
وتطل ثورة المعلومات لتحتل فراغات الانسحاب، بمعطياتها وأدواتها، وتقنيات الاتصال التي تتطور وتتسارع بمعدلات مذهلة، ومعها تظهر علاقات إنتاج جديدة وتقوم اقتصادات دول على صناعة مستلزمات المعلومات والاتصالات (البرمجيات)، ويتخلق جيل جديد من الشباب يتوفر على هذه الصناعات خصوصا في جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية، وقد نشهد خلال فترة وجيزة تغير خريطة القوى الدولية، كما حدث في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
وجدت بين يدي كتابا يقترب من هذا المشهد صادر عن مؤسسة "فريدرش إيبرت" الألمانية بعنوان "مستقبل الديمقراطية الاجتماعية" للدكتور توماس ماير، ترجمه إلى العربية الدكتور خليل أبو عياش، الأردن، وهو يرى أن تناقضات الديمقراطية الغربية (الليبرالية) وعجزها عن معالجة إشكالية الثروة والسلطة باعتمادها المفرط على قيم السوق وإيمانها بأنه يملك اليات تنظيم ذاتي تضبط العلاقات داخله، فضلًا عن إيمانها المطلق بحرية امتلاك وسائل الإنتاج، أدت إلى تشكل مشروع الديمقراطية الاجتماعية، والذى يتبنى استكمال الحقوق السياسية والمدنية الأساسية بحقوق اجتماعية واقتصادية من أجل تحقيق ظروف حياتية جديرة بالكرامة الإنسانية لكل البشر، ويصفها بأنها التشاركية المبنية على قاعدة الأمن الاجتماعي وحصول الفرد على نصيبه في المجتمع وتوزيع عادل لفرص العيش. وسوف نفرد مجموعة من المقالات تتناول طرح الكتاب بشيء من التفصيل.
على أن اللافت أن الشباب المصري بعبقرية فطرية أوجز في شعار ثورة 25 يناير "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية" أركان هذا الطرح، والذى يقوم باختصار على الترابط بين الأمن الاجتماعي وتوزيع عادل لفرص العيش ومشاركة مجتمعية في الديمقراطية السياسية. ذاك الشعار والذي صاغه بعيدًا عن الأضواء على أرض ميدان التحرير دون أن يتاجر به أو يسجل براءة اختراعه الشاب الرائع الراحل الدكتور سامر سليمان، يهديه للثوار ثم ينسحب بهدوء ويرحل عن عالمنا كشهب لا نكاد نراه حتى اختفى.
ومن يتابع الحور التلفزيوني للسيد عبد الفتاح السيسي المرشح الرئاسي يجده يطرح مضمون مشروع الديمقراطية الاجتماعية، موقعًا على خطط وبرامج تشكل برنامجه الانتخابي بخطوط عريضة، عندما كرر في أكثر من موقع حتمية عودة الدولة لممارسة دورها في ضبط السوق بآليات تملكها بعيدًا عن الأشكال التقليدية التي تطرحها نظريات ملكية الدولة لأدوات الإنتاج والتسعير الجبري وغيرها، ثم تأكيده تبني مشروعات التنمية البشرية والتي تحول الزيادة السكانية من صداع مزمن إلى قيمة إنتاجية ومورد بشري يشكل أحد أهم محاور العملية الإنتاجية ويمثل قيمة مضافة للاقتصاد القومي، من خلال إعادة رسم خريطة المحافظات بإضافة ظهير صحراوي وامتدادات تصل البحر الأحمر ببعضها، حتى تخلق كيانات اقتصادية إنتاجية متكاملة تجعل الخروج من حزام "العوز" -بحسب تعبيره- أمرا ممكنًا نلمس آثاره خلال شهور معدودة وتكتمل ملامحها المؤثرة خلال عامين.
وتأكيده على إعادة الاعتبار لقيمة العمل الجاد والمضنى كطريق أوحد لزيادة الإنتاج، وتوفير فرص العمل دون وساطة أو محاباة كدأبه في سابق مهامه.
واشار إلى الدور الاجتماعى لرجال الأعمال وعرضهم للاسهام في تطوير البنية الأساسية للمنشآت التعليمية على امتداد الوطن.
ويتفق طرح السيسي مع طرح مشروع الديمقراطية الاجتماعية حين ركز على حتمية استعادة منظومة الأخلاق التي تم تجريفها عبر عقود ممتدة، إلى درجة استلفتت نظر المحاور الإعلامي إبراهيم عيسى، فكان سؤاله وهل تكفي الأخلاق في إصلاح اختلالات المرحلة، فكانت إجابته حاسمة "نعم"، ليس فقط باعتبارها قيما طوباوية، دينية، لكنها تؤسس لبناء حائط صد بشري ضد الفساد والإثرة والتكالب على المغانم.
ومن يقرأ ما خلف الكلمات في الحوار يكتشف أن المرشح الرئاسي اعتمد المنهج العلمي في إسناد الملفات إلى متخصصيها المشهود لهم دوليًا بالتصدي لمثيلاتها ونجاحهم في وضع وتنفيذ حلول عملية لها، بعيدًا عن الحلول النمطية أو النظرية.
رغم التحديات العنيفة التي تواجهنا إلا أن الحوار يبعث ببارقة أمل.. نأمل أن تترجم على الأرض.