سعيتُ لأُصالح مكتبتي، التي تحمل علىَّ عتابًا مستحقًا منذ أدرت لها ظهري موليًا شطر "اللاب توب" بعد أن وقعت في حبائل نداهة "الفيس بوك" فإذا به يستغرقني في عالمه الافتراضي الذي يعكس كل أمراض وإخفاقات ونزق وأحيانا أحلام العالم الحقيقي المعاش، وكادت العلاقة معه تتحول إلى إدمان، والفكاك منه أو على الأقل ضبطه يشبه في كلفته معاناة مرحلة انسحاب المخدر من عقل المرء.
عدت إلى واحد من الكتب التي شكلت وجداني في شرخ الشباب، بلغتها الرصينة والحميمية، تحمل تجربة صاحبها المديدة والعميقة، "الأيام" لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وكأنى أطالعه لأول مرة، جرى القلم مجددًا يرسم خطوطًا تحت سطور عدة، وكان طعم القراءة مختلفًا، بفعل خبرات راكمتها أيامى، على أن هاجسًا راح يخايلنى؛ هل كان الكاتب حقيقة يحمل إعاقة "كف البصر"؟، إذ كيف له أن يصف طفولته وأجواء قريته بكل هذا التدقيق والتفصيل، وكيف له أن ينقل ملامح "سيدنا" بكتَّاب القرية، وتفاصيل عديدة قد لا تستوقف من يتمتع بنعمة البصر؟، هل كان له رفيق يحكى له، أم هى مكنة ترجمة أحاديث من حوله إلى صور تجسد واقعًا حيل بينه بفعل الإعاقة البصرية؟، هل هى البصيرة هل هى الرؤية؟.
ولا يمكن للقارئ أن يتابع القراءة بمعزل عن اللحظة المعيشة، لذلك توقفت عند استعراضه لنوعيات الكتب التي يقبل عليها أهل القرية، أو بلغة يومنا الأكثر مبيعًا، فيرصد أن القائمة يتصدرها كتب السحر وكتب التصوف، ويستوقفك أنه كان للكتب مكانة في القرية يقبلون عليها ويشترونها من باعة يطوفون الريف، على اختلاف نوعياتها.
وفى تجربته الشخصية يقول: "وقد قرئ لصاحبنا من هذا كله، فحفظ منه الشيء الكثير، ولكنه عني بشيئين عناية خاصة: عُنى بالسحر، وعُنى بالتصوف. ولم يكن في الجمع بين هذين اللونين من العلم شيء من الغرابة ولا من العسر؛ فإن التناقض الذي بينهما ليس إلا صوريًا في حقيقة الأمر، أليس الصوفي يزعم لنفسه وللناس أنه يخترق حجب الغيب، وينبئ بما كان وما سيكون، كما أنه يتعدى حدود القوانين الطبيعية ويأتى بضروب الخوارق والكرامات؟" يستطرد صاحب الأيام "والساحر ماذا يصنع؟، أليس يزعم لنفسه القدرة على الأخبار بالغيب، وتجاوز حدود القوانين الطبيعية أيضًا، والاتصال بعالم الأرواح؟ بلى! كل ما يوجد من الفرق بين الساحر والصوفى هو أن هذا يتصل بالملائكة، وذاك يتصل بالشياطين، ولكن يجب أن نقرأ إبن خلدون وأمثاله لنصل إلى تحقيق مثل هذا الفرق، ونرتب عليه نتائجه الطبيعية من تحريم السحر والترغيب عنه، وتحبيب التصوف والترغيب فيه".
هذا الخلط الذي رصده العميد ما زال قائمًا بيننا بصور شتى، وما زال العلاج عند ابن خلدون، وما يمثله من رمز ومعنى، وما زالت الأزمة هي هي كما وصفها "وما كان أبعد صبينا وأترابه عن ابن خلدون وأمثال إبن خلدون!".
في ذات السياق يكشف الدكتور طه حسين كيف يتشكل الذهن والعقل الشعبي أو الجمعي؛ يقول "على أن صبينا لم يلبث أن أضاف إلى هذه الألوان من العلم ـ التي تقع في دائرة اهتماماته ـ لونًا آخر وهو علم السحر والطلاسم، فقد كان باعة الكتب يتنقلون في القرى والمدن بخليط من الأسفار ـ الكتب ـ لعله أصدق مثل لعقيدة الريف في ذلك العهد، كانوا يحملون في حقائبهم مناقب الصالحين، وأخبار الفتوح والغزوات، وقصة القط والفار، وحوار السلك والوابور، وشمس المعارف الكبرى في السحر، وكتابًا آخر لست أدرى كيف كان يسمى، ولكنه كان يعرف بكتاب "الدربى" ثم أورادًا مختلفة، ثم قصص المولد النبوى، ثم مجموعات من الشعر الصوفى، ثم كتب في الوعظ والإرشاد، وأخرى في المحاضرات وعجائب الأخبار، ثم قصص الأبطال من الهلاليين والزناتيين، وعنترة، والظاهر بيبرس، وسيف بن ذى يزن، ثم القرآن الكريم مع هذا كله".
أدعوك عزيزى القارئ للتوقف مليًا عند استكمال الكاتب لهذه الفقرة، وهو يقول "كان الناس يشترون هذه الكتب كلها ويلتهمون ما فيها التهاما، وكانت عقليتهم تتكون من خلاصته كما تتكون أجسامهم من خلاصة ما كانوا يأكلون ويشربون".
هنا ينير العميد مساحة تشكيل الذهنية العامة، من خلال مصادر المعرفة - الكتاب آنئذ - الذى استولى على موقعه ودوره مدخلات عديدة على رأسها آليات الإعلام وفي طليعتها منظومة الفضائيات، وخلفها ـ واقعيًا ـ منظومة التعليم، فإذا كنا نريد أن نفهم لماذا استشرى التطرف والإرهاب والفرز على الهوية والكراهية وتراجع قيم العمل والإنتاج، والحشد للحقوق في تواز مع إغفال الواجبات وشيوع حالة التبرم، فعلينا أن نعيد فحص آليات تشكيل وتكوين وتوجيه العقل الجمعي بين البناء المشوه وتجريف ما استقر من قيم إيجابية، يد تخرب ويد تجرف.
وماذا بعد، هل سنكتفى بالرصد والتشخيص ثم نضيفهما إلى التأسي على ماض تولى؟ أم نسعى لوضع رؤى لإصلاح يومنا لغد أفضل؟.
ما زالت "أيام" طه حسين شاهدة على أيامنا.. تقرأها وتدينها.
عدت إلى واحد من الكتب التي شكلت وجداني في شرخ الشباب، بلغتها الرصينة والحميمية، تحمل تجربة صاحبها المديدة والعميقة، "الأيام" لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، وكأنى أطالعه لأول مرة، جرى القلم مجددًا يرسم خطوطًا تحت سطور عدة، وكان طعم القراءة مختلفًا، بفعل خبرات راكمتها أيامى، على أن هاجسًا راح يخايلنى؛ هل كان الكاتب حقيقة يحمل إعاقة "كف البصر"؟، إذ كيف له أن يصف طفولته وأجواء قريته بكل هذا التدقيق والتفصيل، وكيف له أن ينقل ملامح "سيدنا" بكتَّاب القرية، وتفاصيل عديدة قد لا تستوقف من يتمتع بنعمة البصر؟، هل كان له رفيق يحكى له، أم هى مكنة ترجمة أحاديث من حوله إلى صور تجسد واقعًا حيل بينه بفعل الإعاقة البصرية؟، هل هى البصيرة هل هى الرؤية؟.
ولا يمكن للقارئ أن يتابع القراءة بمعزل عن اللحظة المعيشة، لذلك توقفت عند استعراضه لنوعيات الكتب التي يقبل عليها أهل القرية، أو بلغة يومنا الأكثر مبيعًا، فيرصد أن القائمة يتصدرها كتب السحر وكتب التصوف، ويستوقفك أنه كان للكتب مكانة في القرية يقبلون عليها ويشترونها من باعة يطوفون الريف، على اختلاف نوعياتها.
وفى تجربته الشخصية يقول: "وقد قرئ لصاحبنا من هذا كله، فحفظ منه الشيء الكثير، ولكنه عني بشيئين عناية خاصة: عُنى بالسحر، وعُنى بالتصوف. ولم يكن في الجمع بين هذين اللونين من العلم شيء من الغرابة ولا من العسر؛ فإن التناقض الذي بينهما ليس إلا صوريًا في حقيقة الأمر، أليس الصوفي يزعم لنفسه وللناس أنه يخترق حجب الغيب، وينبئ بما كان وما سيكون، كما أنه يتعدى حدود القوانين الطبيعية ويأتى بضروب الخوارق والكرامات؟" يستطرد صاحب الأيام "والساحر ماذا يصنع؟، أليس يزعم لنفسه القدرة على الأخبار بالغيب، وتجاوز حدود القوانين الطبيعية أيضًا، والاتصال بعالم الأرواح؟ بلى! كل ما يوجد من الفرق بين الساحر والصوفى هو أن هذا يتصل بالملائكة، وذاك يتصل بالشياطين، ولكن يجب أن نقرأ إبن خلدون وأمثاله لنصل إلى تحقيق مثل هذا الفرق، ونرتب عليه نتائجه الطبيعية من تحريم السحر والترغيب عنه، وتحبيب التصوف والترغيب فيه".
هذا الخلط الذي رصده العميد ما زال قائمًا بيننا بصور شتى، وما زال العلاج عند ابن خلدون، وما يمثله من رمز ومعنى، وما زالت الأزمة هي هي كما وصفها "وما كان أبعد صبينا وأترابه عن ابن خلدون وأمثال إبن خلدون!".
في ذات السياق يكشف الدكتور طه حسين كيف يتشكل الذهن والعقل الشعبي أو الجمعي؛ يقول "على أن صبينا لم يلبث أن أضاف إلى هذه الألوان من العلم ـ التي تقع في دائرة اهتماماته ـ لونًا آخر وهو علم السحر والطلاسم، فقد كان باعة الكتب يتنقلون في القرى والمدن بخليط من الأسفار ـ الكتب ـ لعله أصدق مثل لعقيدة الريف في ذلك العهد، كانوا يحملون في حقائبهم مناقب الصالحين، وأخبار الفتوح والغزوات، وقصة القط والفار، وحوار السلك والوابور، وشمس المعارف الكبرى في السحر، وكتابًا آخر لست أدرى كيف كان يسمى، ولكنه كان يعرف بكتاب "الدربى" ثم أورادًا مختلفة، ثم قصص المولد النبوى، ثم مجموعات من الشعر الصوفى، ثم كتب في الوعظ والإرشاد، وأخرى في المحاضرات وعجائب الأخبار، ثم قصص الأبطال من الهلاليين والزناتيين، وعنترة، والظاهر بيبرس، وسيف بن ذى يزن، ثم القرآن الكريم مع هذا كله".
أدعوك عزيزى القارئ للتوقف مليًا عند استكمال الكاتب لهذه الفقرة، وهو يقول "كان الناس يشترون هذه الكتب كلها ويلتهمون ما فيها التهاما، وكانت عقليتهم تتكون من خلاصته كما تتكون أجسامهم من خلاصة ما كانوا يأكلون ويشربون".
هنا ينير العميد مساحة تشكيل الذهنية العامة، من خلال مصادر المعرفة - الكتاب آنئذ - الذى استولى على موقعه ودوره مدخلات عديدة على رأسها آليات الإعلام وفي طليعتها منظومة الفضائيات، وخلفها ـ واقعيًا ـ منظومة التعليم، فإذا كنا نريد أن نفهم لماذا استشرى التطرف والإرهاب والفرز على الهوية والكراهية وتراجع قيم العمل والإنتاج، والحشد للحقوق في تواز مع إغفال الواجبات وشيوع حالة التبرم، فعلينا أن نعيد فحص آليات تشكيل وتكوين وتوجيه العقل الجمعي بين البناء المشوه وتجريف ما استقر من قيم إيجابية، يد تخرب ويد تجرف.
وماذا بعد، هل سنكتفى بالرصد والتشخيص ثم نضيفهما إلى التأسي على ماض تولى؟ أم نسعى لوضع رؤى لإصلاح يومنا لغد أفضل؟.
ما زالت "أيام" طه حسين شاهدة على أيامنا.. تقرأها وتدينها.