"الخانقاه" كلمة كانت تُستخدم في العصر المملوكي، وكانت تشير أساسًا إلى تلك الزاوية التي تُخصص للعابدين والنُسَاك، وجمعُها "خانقاوات".. وكان يتدلى من سقف هذه الزاوية سلاسل من حديد، وفي نهاية كل سلسلة حلقة من الحديد، كان العابد أو الناسك أو المعتكف يضع رأسه فيها ليتعبد وهو واقف بين يدي الله.. وكانت هذه الحلقة (الخانقاه) إذا ما غلبه النوم أو الغفلة وهو واقف، تضغط على عنقه فتصيبه بالاختناق، وسرعان ما يفيق من غفلته عن عبادة الله في جنح الظلام.
وقد أوهم الإخوان "المسلمون" الشعب المصري طوال ما يزيد على ثمانين عامًا بأنهم الزُهاد العُبّاد النُسّاك كمن يرتادون تلك الخانقاوات تقربًا إلى الله، فصدقهم الناس ووثقوا بهم وقدموهم في الاستحقاقات الانتخابية بعد ثورة يناير، إلا إن الناس سرعان ما اكتشفوا أن هؤلاء الإخوان ما هم إلا تُجَار دينٍ فثاروا عليهم، كما أن تلك الخانقاوات الافتراضية التي حرص الإخوان أن يضعوها حول أعناقهم ليلاً ونهارًا سرًا وعلانية عندما رأت أنهم يوظفونها لا لكي يتقربوا إلى الله ولكن لكي تقربهم إلى الناس زلفى طلبًا للذي هو أدنى (الدُنيا) ويستبدلونه بالذي هو خير (الدين)، أحست هذه الخانقاوات الافتراضية أن الإخوان نأوا بأنفسهم عن الله.. نسوا اللهَ فأنساهم أنفسهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وثارت عليهم خانقاوات الزاهدين والتي طوق طالبو الدنيا بها أعناقهم، فثارت عليهم، وأخذت تضيق على أعناقهم انتقامًا لكل الزاهدين الذين سبقوهم؛ وكانت تضيق عليهم بقدر ما قدمت أيديهم، حتى بلغت أرواحهم الحُلقوم، وسوف تودي بهم إلى الهلاك عندما يصلون إلى النزع الأخير فُرادى وجماعات، عندئذٍ فقط سيدركون أن لا ملجأ من اللهِ إلا إليه، ولكن بعد فوات الأوان.
ولم يدرك الإخوان أن خانقاواتهم التي طوقوا بها أعناقهم تزلفًا ورياءً بدأت تضيق على أعناقهم أثناء اعتصام رابعة؛ فرغم كل تلك الجعجعة الفارغة التي شاهدناها على شاشات الفضائيات في بثٍ مباشر لأناسٍ فقدوا عقولَهم وأطالوا ألسنتهم، وتمسكوا بأهداب الخيال ولفظوا الواقع وتعاموا عنه، تعاموا عنه حين مكثوا في اعتصامهم ما يزيد عن أربعين يومًا تسامحت فيها الدولة المصرية معهم وتركت الأبواب مفتوحة لمختلف أنواع الوساطات المحلية والعربية والدولية، إلا إنهم أصروا وعموا وصموا، وأخذوا يكابرون ويعاندون اعتقادًا منهم أنهم أقوى من الدولة المصرية التي أخذوا يهددونها بإرهابييهم ومجرميهم وتنظيمهم الدولي، وأغلقوا عقولهم على مطالب ثلاثة لازالوا يرددونها حتى هذه اللحظة وهى عودة ذلك الهارب من سجن وادي النطرون إلى قصر الرئاسة وعودة دستورهم الإخواني المعطل وعودة مجلس الشورى الباطل، لقد كانت هذه الوساطات فرصًا منحتهم إياها الدولة المصرية التي لديها رصيدٌ هائلٌ من الصبر اكتسبته عبر آلاف السنين والتجارب، وهو الرصيد الذي علمها كيف تكسب معاركها ضد أعدائها مهما طال الزمن، كانت هذه الفرص التي منحتهم الدولة إياها بمثابة أطواق نجاة، لكن الإخوان أبوْا إلا أن يحولوا هذه الأطواق إلى خانقاوات يضيّقون بها الخِناق على أنفسهم.
ومنذ فض اعتصامي رابعة والنهضة، والانكشاف المخزي للإخوان أمام الله وأمام الناس، وأنهم ليسوا بأهلِ دينٍ وإنما طلابُ دنيا، فقد دبت الحياة في الخانقاوات الموضوعة حول أعناقهم لتضيق أكثر كلما أحست منهم الكِبر والأفعال التي تتنافى مع صحيح الدين الذي لم يُبِح مطلقًا إراقة دماء المسلمين سواء كانوا جيشًا أو شرطة أو مواطنين عاديين.
كما أن هناك من العوامل والمؤثرات الأخرى التي ساعدت مؤخرًا على تضييق الخِناق على الإخوان محليًا وعربيًا ودوليًا؛ فعلى المستوى المحلي بدأت المحاكمات التي تكشف كل يوم عوْرات الإخوان التي كانوا يحرصون على إخفائها أثناء وجودهم في سُدة الحكم، كما بدأت صدور الأحكام الرادعة لكل من تسوِل له نفسه معاداة الدولة المصرية والخروج على القانون وتحدي سلطة الدولة، كما أعلن وزير الداخلية تجفيف أكثر من 90% من البؤر الإرهابية الإخوانية، وعلى المستوى العربي قامت دول الخليج الشقيقة الداعمة لمصر بوقف دولة قطر عند حدودها لتصبح دولةً معزولة منبوذة حتى تعود إلى جادة الصواب، وهى بالفعل قاب قوسين أو أدنى من هذا، حيث تريد التخلص من وجود الإخوان على أراضيها هى وتركيا وترسلهم إلى تونس، إلا إن التونسيين رفضوا ذلك، ليشعر الإخوان بمعنى كلمة "وطن" التي أسقطوها من أدبياتهم وأهدروها طوال حكمهم لمصر رغم قِصَرِه.
وعلى المستوى الدولي، أصبح الإخوان محاصرين في بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي وكندا، حيث تسعى كل هذه الدول بمراجعة ملف الإخوان ومدى خطورة وجودهم على أراضيها، وحتى مساندة الولايات المتحدة الأمريكية بدأت في التآكل أو التلاشي التدريجي، وهو ما يدعمه إعلان الولايات المتحدة "أنصار بيت المقدس" جماعة إرهابية، والإفراج عن 10 طائرات أباتشي لمصر لمساعدتها في "مكافحة الإرهاب" في سيناء وإعداد مشروع قانون للإفراج عن جزء من المساعدات الأمريكية يبلغ 650 مليون دولار ودعوة مصر للمشاركة في مناورات وتدريبات عسكرية مشتركة تشارك فيها الولايات المتحدة مع دول الخليج، وكان استضافة مصر لتحل محل قطر المنبوذة حتى من حليفتها الأمريكية، لأن الولايات المتحدة أصبحت تدرك أن الواقع قد تغير ومن هنا كان يجب أن تكون أكثر مرونة مع معطيات الواقع الجديد.
وهكذا، تضيق الخانقاوات على رقاب الإخوان، ورغم أننا نحترم استقلالية القضاء ولا نعلق على أحكامه، فإننا نسأل: هل أحكام الإعدام التي صدرت بحق مئات الإخوان هى تجسيد فعلي لما فعلته بهم تلك الخانقاوات التي طوقوا بها أعناقهم فضاقت عليهم بما قدمت أيديهم وتحولت إلى مشانق لتزهق أرواحهم نفسًا نفسًا تصحبهم لعنات النُسَاك والزُهَاد؟