تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
رغم الجوانب الإيجابية التي رصدناها في مقالٍ سابق لمشروع ميثاق الشرف الإعلامي، إلا أن هذا المشروع لم يخلُ من عديد من السلبيات التي ربما جاءت تكراراً لما وقعت فيه مواثيق الشرف الإعلامي في الدول العربية والإسلامية التي اطلعت عليها د. درية شرف الدين عند إعداد هذا المشروع، أو ربما جاءت لتطالب الإعلاميين بما هو دورٌ أصيل للدولة تعمد دوماً إلى التغافل عنه:
أولاً: الفقرة الأولى من مشروع الميثاق مثيرة للسخرية إلى حد البكاء كما هو الحال في الكوميديا السوداء، حيث تتحدث هذه الفقرة عن الإعلاميين المصريين في مجال الإعلام المرئي والمسموع العام والخاص، وهم الإعلاميون الذين لا يعرفون شيئاً عن ميثاق الوزيرة، وأعطت لنفسها حقاً غير مشروع للحديث بلسانهم، وكأن عملها السابق كإعلامية يجعلها تتحدث باسمهم دون الرجوع إليهم أو استشارتهم ، رغم اتساع الوسائل الإعلامية التي ينتمون إليها ، واختلاف رؤيتها الإعلامية.
ثانياً: جاء مشروع الميثاق – كغيره من مواثيق الشرف الإعلامي وكذلك تشريعات الإعلام في الدول السلطوية – جاء حافلاً بالعبارات المطاطة، ولاسيما في باب المبادئ، ومن أمثلة هذه العبارات المطاطة: الأمن القومي المصري ،وحدة الوطن ، وسلامة أراضيه ، وخدمة الشعب والوطن، مهنتنا ترتبط بضمير الشعب.
ثالثاً: جاءت المادة السابعة في باب المبادئ لتنص على حق الإعلاميين في الوصول الى المعلومات وتداولها وبثها لأن ذلك هو صُلب مهنة الإعلام ومكونٌ أساسيٌ لقيامهم بدورهم، وقد أكدت المادة الثالثة في باب الحقوق على هذا الحق مرة أخرى ، حيث نصت على أن "للإعلاميين الحق في الوصول إلى الأخبار والمعلومات والإحصاءات والوثائق، والاطلاع عليها واستقاء ما يلزمهم منها بما يخدم عملهم الإعلامي ويضفى عليه المصداقية".
والحقيقة أن مسئولية الدولة تسبق مسئولية الإعلاميين في حق الوصول للمعلومات وتداولها وغير ذلك مما ورد في المادتين المشار إليهما سلفاً، فلقد بُح صوت الإعلاميين منذ أُخريات حكم مبارك وفي فترة ما بعد الثورة، وخلال حُكم الإخوان من أجل إصدار قانون لتداول المعلومات، وقدمت بعض منظمات المجتمع المدني مشروعات لمثل هذا القانون، كما حدثت مساجلات أثناء حُكم الإخوان حول هذا القانون الذين كانوا يريدون أن يُصدروه بمعزل عن الإعلاميين أو بمشاركة الإعلاميين الذين ينتمون إليهم بالأساس ومشاركة شكلية من سائر الإعلاميين. وعلى أية حال، لم يصدر مثل
هذا القانون حتى الآن، فكيف إذن يتحقق هذا الحق للإعلاميين، وهو حقٌ تنكره عليهم الدولة.
رابعاً: ما ورد في المادة الأولى من باب الواجبات من حيث احترام حقوق وكرامة الإنسان وحرمة الحياة الخاصة للمواطنين والامتناع عن انتهاكها بأي صورة من الصور، أغفل جانباً مُهماً فيما يتعلق بقضية الخصوصية، وهى أنه لا خصوصية للشخصيات العامة التي تشغل منصباً عمومياً، ولا خصوصية للمُتهمين بالعمالة للخارج وتلقي الأموال من جهات لا تريد الخير لهذه البلاد، ولو تعاملنا مع هذا المبدأ على إطلاقه، لكان مُحرماً على عبد الرحيم علي مقدم برنامج "الصندوق الأسود" أو على "جوليان أسانج" صاحب موقع "ويكيليكس" أن يذيعا ويبثا تلك التسريبات التي سلطت
إضاءات ساطعة وكاشفة لبعض جوانب الصورة التي لم تكن الشعوب تراها فيمن كانت تنظر إليهم بالاحترام والتقدير وهم لا يستحقون ذلك.
خامساً: لم أكن أود أن يخلط هذا الميثاق في مادته الرابعة من باب الواجبات بين الديني والدنيوي، فالإعلام والدين بينهما بعض علاقات الوصل وكثير من مساحات القطيعة. ومن هنا، فإن مواثيق الشرف المهنية (الأخلاقية) يجب ألا تخضع لتعاليم الدين من حيث الأوامر والنواهي، لا أقول ذلك من منطلق الاستباحة، ولكن أقوله من منطلق أن المواثيق مسألة أخلاقية قد يلتزم بها البعض ولا يلتزم بها البعض الآخر، لذا فمن الأفضل عدم الزج بأمور دينية في مواثيق هي في الأساس أخلاقية، كما أن الدستور والقانون يضع عقوبات محددة على من يسئ إلى الذات الإلهية أو الأديان أو
الرُسل ومن يدعو إلى الإلحاد، وبالتالي فإن مثل هذه الأمور مفروغٌ منها في القانون ، فلماذا يتم تضمينها في ميثاق شرف أخلاقي. إن ثورتي يناير ويونيو قامتا من أجل دولة مدنية حديثة لا مجال فيها للخلط بين ما هو ديني وما هو دنيوي.
سادساً: دعا مشروع الميثاق إلى الحفاظ على سلامة اللغة العربية باعتبارها قوام الثقافة العربية ورمز الهوية، وتعلقاً على ذلك أقول أن ثمة أخطاء لغوية وردت في هذا المشروع، ويبدو أن جهابذة ماسبيرو يثقون –إلى حد الغرور في مَلَكَاتِهم اللغوية، لدرجة عدم استعانتهم بمُصححٍ لغويٍ محترف.
سابعاً: يوجد ثمة توجيه غير مستحب في المادة السادسة من باب الواجبات، وهو المتعلق بتعزيز العمل العربي المشترك باعتباره ركيزة اساسية للتضامن العربي وتسخير إمكانات الإعلام كافة في خدمة المصالح العليا للأمة العربية، وهى رؤية عروبية قد يتبناها البعض وقد لا يتبناها البعض الآخر، ولا غضاضة في كلا التوجهين إذا كانا يصُبا في النهاية في المصلحة الوطنية.
ثامناً: تستخدم بعض عبارات المادتين (13) و(15) من باب الواجبات عبارات من قبيل: "القيم المثالية" و"الموعظة الحسنة" و"القيم النبيلة" ، وهي كلها تعكس انعزالاً عن قيم المجتمع على أرض الواقع، وربما لا توجد مثل هذه المثاليات سوى في عقول من صاغوا مثل هذه العبارات.
تاسعاً: إن إفراد المادة (23) من باب الواجبات للإعلانات التجارية ليس مكانه ميثاق شرف إعلامي، بل من الأفضل أن يكون جزءاً من ميثاق شرف إعلاني يقوم بصياغته ممثلون عن المعلنين ووكالات الإعلان ووسائل الإعلام المعلنة وخبراء وأساتذة الإعلان والجمهور المستهدف بهذه الإعلانات.
عاشراً: قصر هذا المشروع على الإعلام المرئي والمسموع يوحي بأن هذا النوع من الإعلام هو الذي تستطيع الدولة السيطرة عليه، وهي رسالة خاطئة تُرسل بها الدولة للإعلاميين، وكان من الممكن إذا خَلُصَت النوايا أن يكون هذا المشروع ميثاقَ شرفٍ إعلاميٍ لكل الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمطبوعة والإلكترونية، إذا تم توسيع قاعدة الإعلاميين والأكاديميين والجمهور الذين سيناط بهم صياغة مثل هذا المشروع.
وفي النهاية، فإن تشكيل مجموعة مصغرة من إعلاميين مرموقين ومن شخصيات عامة تحظى بقبول شعبي تكون مهمتها تلقى شكاوى انتهاك الميثاق طبقاً لمبادئه ومراجعتها لإقرار الانتهاك من عدمه، على أن تقوم هذه المجموعة أو اللجنة بتحديد عقوبات مسبقة لتوقيعها على المخالفين لميثاق الشرف، هو أسلوب للزجر والتهديد لا وجود له في مواثيق من المفترض أن تكون أخلاقية، يمثل الالتزام بها ضمير الإعلامي ومهنيته والتزامه أمام المجتمع.
إن ثورتي يناير ويونيو قامتا من أجل الحرية، والأسلوب والطريقة والإقصاء الذي صدر بها مشروع ميثاق الشرف الإعلامي لا ينم أننا في مسيرتنا الصحيحة نحو الحرية. إن الإعلام قام بدور مشهود لإسقاط حكم الإخوان، وكان معولاً فاعلاً في حكمهم الاستبدادي، فلا ينبغي أن نجعله كذلك بعد ثورتين ودستورٍ يكفل حرياتٍ إعلامية غير مسبوقة لم ينعم الإعلام بأيٍ منها حتى الآن.