تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
ملفان يجب ألا يغيبا عن دائرة اهتمام من يدير شئون الوطن؛ النيل والأقباط، هكذا أجمع المحللون والمؤرخون الذين رصدوا ارتباط الاستقرار والسلام المجتمعي، ومن ثم التنمية والازدهار بمقدار حماية النهر وضبطه وبمقدار الحرص على حماية التعدد والتنوع المصري، باعتبارهما المخزون الاستراتيجي لثراء مصر وسر بقائها.
ومن الخطر الداهم التعامل مع أزمات النيل الحالة وفق معطيات سياسات رد الفعل، أو استخدامها كورقة فى إدارة الصراعات السياسية، أو استثمارها فى التغطية على إخفاقات المرحلة، فضلًا على حتمية الانتباه إلى مخاطرة إسناد تفكيك الأزمة إلى غير بيوت الخبرة وأهل الاختصاص. أو التعويل على الشحن الشعبوي لخلق ضغوطات لا نملك ضبط بوصلتها أو تفاعيل تداعياتها.
قد نكون بحاجة إلى التوقف مليًا أمام العديد من الأمور التي كشفتها أزمة السد الإثيوبي المشرع في تشييده، إن في الإطار المحلي أو الأفريقي أو في ذهنية وآليات التعاطي مع الأزمة؛ لعل أولها حالة الاستعلاء في التعامل مع الظهير الاستراتيجي الأفريقي، أحد أهم دوائر الانتماء المصري، وإهدار الزخم التاريخي الذي لنا في القارة السمراء سواء فى التاريخ القديم أو بعد تأسيس الدولة القومية مع بواكير القرن التاسع عشر، ولعلنا ننتبه إلى اهتمام محمد علي باشا بمشاريع ضبط النهر وإطلاق مسمى الخيرية عليها باعتبار أنها منتجة للخير لربوع الوطن وأشهرها القناطر الخيرية 1847، وانتقل ولعه بالنيل ومنابعه إلى حفيده الأمير عمر طوسون (1872 ـ 1944) ليقدم للمكتبة العربية مرجعًا يرصد فيه حكاية النهر ومنابعه “,”مذكرة عن تاريخ النيل“,”، حتى نصل إلى خزان أسوان الذي أنشئ في عهد الخديو عباس حلمي الثاني ما بين عامى 1899 و1805 وتمت تعليته مرتين على التوالي 1912 و1926، وننتهي إلى السد العالي الملحمة المصرية الذي وضع حجر أساسه الرئيس جمال عبد الناصر في 9 يناير 1960.
تكاد حالة الاستعلاء تصل إلى حد الإهمال والقطيعة بالمخالفة لحسابات الأمن القومي الإستراتيجي، وتتوقف الذاكرة الأفريقية عن مصر عند الحقبة الناصرية، الخبراء والشركات والأزهر والكنيسة، وتغافل مصر عن الحراك الأفريقي وإدراك دول حوض النيل بعد أن وصلتها رياح التحرر إلى حاجتها للتنمية واستغلال موارد الطاقة لديها والنيل في مقدمتها كمدخل لخوض غمار دوائر التصنيع والزراعة، فبدأت تضع رؤى تترجم هذه الطموحات، وبدأت في توقيعها عبر مشاريع على الأرض.
لم يكن سد النهضة بإثيوبيا هو الوحيد فى منظومة الاستفاقة الأفريقية، ففي تنزانيا يتم إنشاء “,”سد دودوما“,”، وقد قارب على الانتهاء، وفي أوغندا العمل يجري على قدم وساق إنشاء “,”سد كاروما“,”، وتصدم حين تطالع تصريحات مسئولي الري عندنا بأن مصر كانت تعلم بهذه المشاريع، ولكنها لم تبلغ بها بشكل رسمي!
وحين تقترب من تفاصيل ومناخات هذه المشاريع تطالعك الاستثمارات الإيرانية والشركات الجنوب أفريقية والخبراء الإسرائيليين والشركات الأوروبية والأمريكية والصينية، ولا تلمح طيفًا لوجود مصري، وهو ملمح يثير التساؤلات عن غياب الدور المصري الأفريقي خاصة في دول حوض النيل (إثيوبيا وأوغندا وتنزانيا ورواندا وكينيا والسودان وبوروندي والكونغو)، لماذا لم تبادر بالمشاركة فى مشروعات التنمية الملحة هناك لتجني العديد من الثمار تبدأ بتوثيق العلاقات مع هذه الدول وتحمي الظهير الاستراتيجي، وتغلق نوافذ تسلل الأعداء التقليديين لها وتفتحها لتفكيك أزمة البطالة عندنا، وبالضرورة تضيف للدخل القومي على مستويات متعددة أرقامًا تقيل اقتصادنا من عثرته، وتفتح آفاق الاستزراع والتصنيع الزراعي المشترك ومن ثم تفعيل التبادل التجاري والصناعي، وخلال هذا كله سيكون العنصر البشري المصري حاضرًا وفاعلًا.
على أن الأمر لا يستقيم في إدارة الأزمة إلا بقراءة المصالح المصرية ضمن قراءة موسعة لمصالح دول الحوض، التي تعلمت إدارة هذه المصالح وتسويقها دوليًا، بعد أن وجد شبابهم طريقهم إلى جامعات أوروبا والغرب بجملته، وعادوا كخبراء وقيمة مضافة لنهضة بلادهم، ولم يعد خيار الحسم العسكرى مطروحًا خاصة فى ظل معطيات اللحظة التى لم تعد فيها المواجهات العسكرية ثنائية الأبعاد، في تدخل سافر لشبكة المصالح للعديد من الأطراف والقوى الدولية، وخبراتنا في هذا المجال مؤلمة وسلبية، ومازالت ذاكرة التاريخ تحتفظ لنا بالحملة التي جردها الخديو إسماعيل على الحبشة (إثيوبيا) ودارت فيها معركتان: معركة جوندت 16 نوفمبر 1875 ومعركة جورا 7 مارس 1876 وكان الانتصار فيهما لإثيوبيا.
وليس في هذا تقليل من شأن العسكرية المصرية فلكل مواجهة حساباتها وموجباتها ومخاطرها وكلفتها، لكن الخيار العسكري في وجود بدائل أخرى يحسب مغامرة لا محل لها، لذلك كانت صدمتنا كبيرة من المعالجات ـ الظاهرة ـ للنظام الحاكم، فقد كان من الطبيعي أن يدعو القوى الوطنية بغض النظر عن موقعها منه إلى التدارس والنقاش والحوار فقد خرجت الأزمة من الدائرة السياسية بتجاذباتها إلى الدائرة الوطنية برحابتها وعمقها، لكن ما حدث أن تحول الحوار الرئاسي إلى مظاهرة سياسية وظاهرة صوتية، كشفت عن خواء معرفي لدى كثيرين، لذلك جاءت المشاركات ـ إلا قليلًا ـ انفعالية معبأة بالتسطيح تحمل رسائل تغازل الشارع المحتقن والمغيب والحائر، وجاءت على المستوى الأفريقي والدولي بنتائج عكسية، وأسهم في هذا غياب المتخصصين والخبراء سواء في مجال النهر أو الري أو السدود أو العلاقات الأفريقية أو القانون الدولي، فتحول الاجتماع من مجلس خبراء إلى مجلس سياسيين دون المستوى.
وبنفس طريقة التفكير والأداء القائم على رد الفعل تتواتر الأخبار عن استدعاء الكنيسة للتوسط ضغطًا على إثيوبيا للتراجع عن مشروع السد، وإسهام الكنيسة واجب وطني لازم لم تتوانَ عنه في المواقف الشبيهة، فقد بادر البابا كيرلس الرابع بالسفر 1856م. إلى إثيوبيا بعد أن تفجرت أزمة مثيلة حول مياه النيل فى عهد الخديو سعيد، ومجددًا يقوم بذات الدور البابا كيرلس السادس في تفكيك الأزمات بين إثيوبيا ومصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر.
لكن الجديد في المشهد أن التعامل مع الكنيسة، ومن ثم الأقباط في هذه المرحلة يتم من قاعدة رد الفعل لا تخلو من الانتهازية السياسية التي تصل إلى حد الابتزاز والمزايدة على وطنيتهما، والوساطة هذه المرة تأتي محملة بالمخاطر والتربص، فالسد هناك يحسب مشروعًا قوميًا والمشهد الشعبي يقترب من الحالة المصرية وقت بناء السد العالي، والكنيسة الإثيوبية بحسب مداخلة الأنبا دانيال ـ ممثل الكنيسة فى جلسة الحوار الرئاسي ـ لم تعد تملك مكنة الضغط على الحكومة هناك، والدولة صارت دولة مدنية لا تأتمر بأمر الكنيسة في إثيوبيا، ويمكن أن يحسب هذا التوضيح على إيجازه في شق منه رسالة ذات مغزى للنظام فى مصر.
ولم ينتبه أصحاب القرار فى مصر وسط حالة الضجيج والحشد التعبوى لخطر الحدث إلى أننا بحاجة إلى وقفة حازمة مع علاقتنا المتردية والمهينة مع النهر، والذي تحول إلى وعاء للنفايات وصرف المصانع وقضاء الحاجة للبشر والدواب، فضلًا على الاعتداء على مجراه بالردم والاقتطاع، بعد أن كان كيانًا مقدسًا لأسلافنا العظام المصريين القدماء، وصار التعامل معه ـ عندهم ـ محل سؤال في الحياة الأخرى يحدد مصير الإنسان الأبدي بين أن يجد مكانًا في النعيم أو يلقى فى جهنم.
ولم ينتبه أحد إلى السفه في استخدام مياه النهر خاصة في الزراعة ومنظومة الري التي لم تتغير منذ عرف المصريون الزراعة، ولم يتحرك أحد لمواجهة التسرب عبر شبكة الترع والقنوات بالشروع فى تبطينها أو تطويرها، أو في استبدال الطرق التقليدية للري وفق المتاح من تقنيات حديثة اقتصادية وجادة، ولم يعد أحد يفكر في المشاريع البديلة والمكملة لاستخراج الطاقة كمشروع منخفض القطارة والطاقة الشمسية وطاقة الرياح أو المشاريع الأفريقية الممكنة والمطروحة ـ مشروع نهر الكونغو ـ والتي توفر لمصر من 10 إلى 15 مليار متر مكعب من المياة بحسب الخبراء والمختصين.
أخشى أن تكون الضجة المثارة جزءًا من مخطط سياسي للتغطية على فشل هنا أو هناك، وهو نسق كم عانينا منه في أنظمة سابقة، ولا أظننا نملك ترف إعادة إنتاجه، الأمر جد خطير فهل ننتقل من التناول السياسي الضيق إلى رحابة التناول الوطني؟