اعتبرها من العجائب بيقين.. أعنى واقعة قيام حازم الببلاوى رئيس الوزراء السابق بتوكيل حسام عيسى نائبه السابق ووزير التعليم العالى السابق كذلك، بإعلان بيان على الأمة يوم 25 ديسمبر الفائت يبشرنا أن الحكومة اعتبرت الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، وهو ما ثبت كذبه شكلًا وموضوعًا يوم 10 أبريل الجاري، حين اكتشف أحد النبهاء أو مجموعة منهم أن كل ذلك الكلام كان شفاهيًا، ومتجنبًا التورط فى أي عمل إجرائي صحيح يجعل من ذلك الموقف الصوتى الحكومي عملا فعليًا فوق الأرض، وبحيث يُرفع إلى رئيس الجمهورية المؤقت ليصدر به قرار بقانون ويُنشر فى الوقائع المصرية (الجريدة الرسمية).
ضغط الرأى العام – بقوة – على تلك الحكومة المترهلة (ذات المواقف المريبة الملتبسة) التى ضمت في تشكيلتها عددًا كبيرًا من أفراد الطابور الخامس المعادين لثورة 30 يونيو الأسطورية والمدينين بولاءات مطلقة لمحمد البرادعي الوكيل السياسى والمخابراتى للإدارة الأمريكية، وللتحالف الاقليمي والدولي الذي قامت بتصنيعه لغزو مصر فى عملية يناير 2011 (تركيا – قطر – حماس – إيران – التنظيم الدولي للإخوان).
واستماتت هذه الحكومة ورئيسها في عدم التجاوب مع الرغبة الشعبية العارمة فى إحكام الحصار القانوني المادي على تلك الجماعة الإجرامية بعد تضييق الإحاطة الرمزية المعنوية عليها من جانب الرأى العام والقوى الوطنية والجماهيرية.. ولم يتوصل أحدنا – أبدًا – إلى سبب مقنع وراء تلك المقاومة المستميتة للأستاذ ببلاوي إزاء الضغوط الشعبية المتعاظمة المنادية بمواصلة حصار الإخوان وإصدار قرار باعتبارها (إرهابية)، حتى أن اساطير مدهشة تناثرت حول رئيس الوزراء السابق، بعضها يتعلق بالتعليمات التى كان يتلقاها من البرادعي (تليفونيًا)، وقد اعترف – أمامي – في نادي هليوبوليس بأنه دائم الاتصال بالبرادعي، والبعض الآخر يتعلق بسيرته التاريخية وشجرة عائلته، وضمنها أن والده المستشار عبد العزيز الببلاوي كان الذي قضى برفع الحظر عن جماعة الإخوان قبيل ثورة 23 يوليو 1952.. ولست فى وارد التحقيق فى صدقية وثبات الواقعة أو الادعاء على حازم الببلاوي بأن موقفه الطري المريب من الإخوان كان مستلهمًا من تاريخ "دادى" وسيرته المهنية والوظيفية.. ولكننى في تلك المسألة – على الجملة وبالكلية – أتوقف أمام رئيس وزراء وجد فى نفسه القسوة التى تسمح له بأن يخدع شعبًا من البسطاء يتعرض – الآن – إلى مأساة على ايادى الإرهابيين بعدما واجه غزوًا حقيقيًا ومدمرًا فى عملية يناير 2011.
ثم إن رجلًا يستسهل خداع البسطاء على ذلك النحو، هو – لابد – يحتقرهم، ويزدرى عقولهم ولا يحترمهم، فإذا كان ذلك الرجل احتل مقعد رئيس وزراء مصر، فإن القصة تصير فى غاية الخطورة، إذ أن ترجمتها فى عبارة بسيطة هى: (رئيس وزراء مصر يحتقر شعب مصر)!!.. وإذا حاولنا أن نجعل ذلك الأمر الفاجع يبدو أقل تراجيدية، فإننا سنقوم بنسب خدعة الببلاوى إلى تلك الخفة المدهشة التى يتدثر بها، فهو رجل ضحوك.. مهزار من دون داع، فضلًا عن افتقاده لمهارة إبداع النكتة، والقدرة على صياغة وصناعة الطرفة.. هو – فقط – يجلس فى نادى "هليوبوليس" إلى مجموعة من العواجيز الذين يأنس إليهم، مرددًا بعض النكات الخارجة، ثم يضحك – هو – عليها منفردًا، وهكذا فعل فى الأسبوع الماضى حين واصل زياراته للنادى).. والمدهش فى الموضوع انه كان يتضاحك ويتمسخر فى توقيتات اشتعل فيها البلد، وسالت الدماء على أسفلت الشوارع.. وهكذا فعل فى حديثه – مؤخرًا – مع منى الشاذلى حين تجاوز الخفة إلى الاستخفاف وراح يحدثنا عن (أزمة ابلة فاهيتا).
ولطالما حيرنى ذلك الرجل، وحاولت معرفة العلة التى يبدو بسببها فى منتهى الانبساط على ذلك النحو، حتى هدانى تفكيرى – وعلى ضوء انكشاف خدعته – إلى أن الرجل سعيد .. مبسوط.. فرحان لأنه ضحك على الشعب.. لا بل ربما أضفت إلى حيرتى، حيرة أخرى، حين قام رئيس الجمهورية المؤقت بتقليد الببلاوي وسامًا، والدفاع المنفعل عنه فى حواره مع لميس الحديدي، إذ نريد وضع حد لحكاية نثر الأوسمة المصرية بحسب تفضيلات الرؤساء، إذ أن تلك الأوسمة والنياشين والقلادات هى تعبير عن (الاعتراف العام) بشخص أدى خدمات جليلة للوطن وناسه، فهل يرى المستشار عدلي منصور أن خداع الببلاوي للشعب يأتي ضمن تلك الخدمات الجليلة التى يحق علينا أمامها إبداء الاعتراف، وإظهار الامتنان.
نياشين مصر، وأوسمتها صارت (روبابيكيا) يحصل عليها أى شخص لاعتبارات غامضة ومضنية، وقد رأينا محمد مرسى (أول جاسوس مدنى منتخب) يمنح نفسه كل أوسمة ونياشين الدولة، ثم رأينا المستشار عدلى منصور يقلد حازم الببلاوي وسامًا وهو رئيس الوزراء الذى خدع الشعب.. ولا ينفع – هنا – أن يقول لنا أحد إن الببلاوى قاد البلاد فى فترة حرجة، لأن تقييمنا لقيادته أنها مرتبكة ومرتعشة وفاشلة، وقد سلم إلى المهندس إبراهيم محلب تركة كارثية، لم ينجح فى تحريك عنصر واحد فيها إلى وضع أفضل، إذ ليس المهم أن تقبل قيادة البلاد فى وضع حرج، ولكن المهم هو ما الذى ستفعله وأنت تقود البلاد فى ذلك الوضع الحرج؟!
نهايته.. باتت نياشين الدولة وأوسمتها أشبه بما كان أحمد مظهر (البرنس) يحوزه فى فيلم (الايدى الناعمة)، ويقايض عليه بائع البسبوسة المتجول، كيما يعطيه مقابلها قطعة مقرمشة (من الحرف)، وهى الأوسمة التى كان البائع يعلقها على جوانب عربته، وينظر لأحدها – بإعجاب – قائلا: (والنبي حلو.. عندك منه تانى يا فندينا)!!
............
خدعنا الببلاوي وحسام عيسى – إذن – وقالوا لنا إن الحكومة أصدرت قرارًا باعتبار الإخوان جماعة إرهابية، فيما كانت تلك الفرية مجرد حديث شفاهى سابح فى الهواء ليس له أصل ولا فصل، بينما احتوى قرار حكومة محلب المكتوب بالحبر على الورق كلاما محددا له (رقم ) فى وثائق الدولة، ويستند – على نحو منصوص عليه فى القرار إلى حكم محكمة القاهرة للأمور المستعجلة – الدائرة الأولى فى جلسة 24/ 12/2013 فى دعوى رقم 3342 لسنة 2013/ مستعجل القاهرة.
صحيح أن عدلي منصور أعاد القرار إلى الحكومة لطرحه على حوار مجتمعي، ولكن – فى النهاية – كنا أمام شئ له رأس وقدمين، وبات موضوع اعتبار الإخوان جماعة إرهابية تعبيرًا عن كلام أشخاص مسئولين يحترمون الشعب المصري.
ونعود إلى الببلاوي.. إذ صار من ألزم اللزوميات علينا أن نحاول رصد وتحديد الأضرار المروعة التى لحقت بنا جراء كل ذلك التلكؤ والخداع والزوغان والزفلطة، الذى اتبعه حازم الببلاوي مع الشعب فى موضوع اعتبار جماعة الإخوان (إرهابية)، وهو ما أوجزه فى التالى:
• عطلت خدعة الببلاوى المواجهات الحقيقية الاستباقية مع العناصر الإرهابية، وقصرت المواجهات الأمنية على من (ارتكب) فعلا إجراميا، وليس من (يعد) لعمل ارهابى.
• تعرضت قوات الأمن والجيش لعدائيات وعمليات استهداف أودت بأرواح المئات من الضباط والصف والجنود والأمناء نتيجة إفقادهم زمام المبادأة بذلك التعطيل الممنهج والقصدى، وهو متعمد لان الببلاوى لجأ للخداع بما أدى إليه.
• حاصر الوضع المترتب على خدعة الببلاوى قدرة الدولة على تجفيف مصادر التمويل لجماعة الإخوان والتى صارت خطوط إمداد تعزز قدرة التنظيم على مواصلة الإرهاب وتجنيد المزيد من العملاء.
• أصابت خدعة الببلاوى الرأي العام بالحيرة والتخبط، والشعور بانعدام الثقة، إذ عاش الناس فى ظل وهم تصور أن قرار اعتبار الجماعة إرهابية قد صدر فيما لم يك هناك قرار من الأصل والأساس.
• أشعرت خدعة الببلاوى وحسام عيسى الشعب بالإهانة لأنه أدرك أن حكامه يستخفون به، ويكذبون عليه ويحتقرون عقله، ويعرضون أمنه للخطر، ولذلك لم أستغرب – أبدا – تصاعد دعوات شعبية فى الأيام الماضية تطالب بمحاكمة حازم الببلاوى بسبب خداعه للشعب.
• تمديد زمن المواجهة الذى ترتب على خدعة الببلاوى أدى إلى تمكين طلبة الجامعة المخربين المنتمين إلى جماعة الإخوان، و"تطعيمهم" ضد أدوات الصدام (الغاز – العصى – المياه) فضلا عن توفير الظروف المناسبة لتخزين السلاح فى الجامعات والمدن الجامعية.
• خدعة الببلاوى (التى لا يمكن تسكينها فى بند الحزق أو فى اضعف الإيمان حسن النوايا) ساهمت – بفاعلية كبيرة – فى إعاقة جهود تفكيك تنظيم الإخوان والذى يحتاج إلى أنواع من المواجهات والمداهمات تختلف عن الصدام المباشر فى الشارع، أو فى موقع تفجير أو قنص.. وقد أعطى ذلك فرصة مدهشة للولايات المتحدة وأعضاء التحالف الاقليمى الذى قامت بتصنيعه (تركيا + قطر+ حماس) أن يستعيدوا التوازن الذى فقدوه بثورة 30 يونيو الأسطورية، ويبدأوا فى توليف خطط جديدة لضرب الدولة فى مصر.
.................
خدعة الببلاوي هى لون من السقوط السياسى، وهى – كذلك – ملف يقتضى الحساب، وليس تقلد الأوسمة والتكريمات.