حين يواجه الطفل ما يثير خوفه فإنه في كثير من الأحيان يغمض عينيه ويغطيها بيديه فيختفي التهديد من مجال رؤيته، و لكن ما يستلفت النظر هو أن بعض الجماعات و النظم السياسية تميل إلي استخدام تلك الآلية الطفولية القديمة .
فلننظر إلي تاريخنا القريب. تاريخ مواجهة الأمة العربية للنشاط الصهيوني على أرض فلسطين. تلك المواجهة التي أسفرت جولتها الأولي عام 1948 عن هزيمة مروعة للجيوش العربية و قيام دولة إسرائيل. كان ما حدث يمثل مصدرًا لألم فظيع للوعي العربي، وكان المتوقع أن يشرع أولي الأمر العرب في إعداد شعوبهم لمواجهة الحقيقة كخطوة ضرورية للبحث في سبل التعامل معها؛ و استيعاب و مواجهة ذلك الواقع الجديد وما تستتبعه تلك المواجهة من تقصي للأسباب ومحاسبة للمسئولين واستشراف للمستقبل وكلها أمور قاسية مؤلمة؛ آثر حكامنا لأسباب لم تعد خافية أن يشيعوا بيننا تلك الآلية الطفولية السحرية القديمة والمريحة: فلنخف إسرائيل عن الوعي الشعبي، ولنصادر الخرائط التي تشير إلي وجود إسرائيل، ولنمح من كتاباتنا كلمة إسرائيل، و إذا لم يكن من الأمر بد فلتكن "إسرائيل المزعومة" بدلا من كونها "دولة إسرائيل" القائمة بالفعل و باعتراف العالم علي جزء من أرض فلسطين التاريخية. ظللنا هكذا حتى وقعت كارثة يونيو 1967 ومع بداية الاستعداد الفعلي العلمي للمواجهة ساد خطابنا السياسي تعبير "العدو الإسرائيلي" وبدأنا نسمح بشعارات "اعرف عدوك" و بدأنا نقرأ كتبًا تحمل عناوين مثل "نظرة إلي الخطر" و "تجسيد الوهم" و ما إلي ذلك. لقد أصبحنا نواجه دولة معادية محتلة قائمة بالفعل و تصاعدت مواجهتنا الفعلية لها إلي حرب أكتوبر 1973 ومازال الصراع العربي الإسرائيلي قائما و لكن بشكل واقعي.
والأمر شبيه بمواقفنا التاريخية من جماعة الإخوان المسلمين، لقد أصدر القضاء عبر السنين العديد من الأحكام بشأن أنشطة جماعة الإخوان المسلمين وإدانة أعضاء ينتمون لها بتهم محددة تمثلت أساسا في ممارسة العنف و الأنشطة السرية، وأمضي أعضاء تلك الجماعة ممن أدانتهم أحكام القضاء و ممن حامت حولهم الشبهات سنوات طوال رهن السجن و الاعتقال و التعذيب, و من رحم معسكرات التعذيب شهدت الجماعة عددًا من الانشقاقات الأكثر تطرفا و جنوحا، و مضت تلك التيارات المنشقة تفرز تنظيمات أكثر تشددا و أشد إمعانا في العنف الإرهابي و السرية التنظيمية، والتزم خطابنا الإعلامي في تعامله مع الجماعة بنفس الآلية الطفولية ملحقا كلمة "المحظورة" باسمها ثم المضي في التعامل واقعيا وعلى مختلف المستويات باعتبارها "جماعة الإخوان المسلمين المحظورة". و لم يعد أحد من صناع خطابنا الإعلامي ينتبه أو يهتم بالتناقض في الحديث عن لقاءات تجري علنا بين رموز نقابية وسياسية وبين المرشد العام لتلك الجماعة "المحظورة".
لقد نجحت أعداد من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات المتتالية للمجالس النيابية منذ أواخر الثمانينات تحت لافتة المستقلون وداوم الإعلام على الإشارة إلى انتمائهم إلي الجماعة "المحظورة"، ولم يكن الملفت في نتائج تلك الانتخابات ارتفاع عدد هؤلاء النواب ولكن كان الملفت والجديد حقًا هو ارتفاع شعارات جماعة الإخوان المسلمين علنا وعلى رؤوس الأشهاد ليشاهدها الجميع من الإسكندرية إلي أسوان عبورًا بمدينة نصر مما يعني أن ثمة قرارًا مركزيًا قد تم اتخاذه في هذا الشأن علي أعلي المستويات السياسية داخل السلطة وأيضا داخل "الجماعة المحظورة"، وكان طبيعيًا ألا يكون اسم الجماعة الملصق علي الجدران ملحقا بتلك الصفة التقليدية التي تنبه إلي أنها "محظورة". و ظلت تلك الآلية الطفولية قائمة إلي أن فتحت ثورة يناير الأبواب للاعتراف العلني بالجماعة و بحزبها السياسي بحيث أصبحت كيانًا منظورًا قابلًا للمحاسبة العلنية و هو ما حدث بالفعل بعد مرور عام واحد على تولي عضو مكتب إرشاد الجماعة الدكتور محمد مرسي رئاسة البلاد. و لعلنا لا نبالغ إذا ما قلنا إنه لولا تولي الإخوان المسلمين سدة الحكم لما وجدوا أنفسهم في ذلك الموقف الواقعي الصعب الذي يواجهونه ونواجهه معهم.
لقد دفعنا دما غاليا و بددنا ثروات طائلة ثمنا لإدمان تعاطي تلك الكلمة السحرية المخدرة "الدولة المزعومة"، ودفعنا ثمنًا باهظًا كذلك من الاستمرار طويلا في استخدام ذلك التعبير "جماعة الإخوان المسلمين المحظورة"، و ما يثير القلق هو أن يصبح التعبير الجديد "جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية" هو الوريث الشرعي للتعبير القديم فنعتمد كعادتنا علي المواجهة الأمنية وحدها ونظل مكتفين إعلاميًا وفكريًا بالركون إلي ذلك المصطلح الجديد.
خلاصة القول
تري ألم يحن الوقت بعد للتحول إلي مواجهة واقعية شاملة تقبل بالحوار الجاد ومن موقف الثقة في النفس مع كل من يسعى للحوار، دون أن يكون ذلك الحوار بديلا للتعامل في نفس الوقت بصرامة بالغة مع كل من يلجأ للعنف و العمل السري أيا كان انتماؤه أو موقعه؟