في زمنٍ تصاعدت فيه أصوات الصمت، وتخاذلت فيه قوى الضمير عن أداء واجبها الأخلاقي، سطعت شخصية نادرة في المشهد العالمي: البابا فرنسيس، الرجل الذي لم تكن رسالته مقتصرة على جدران الفاتيكان، بل امتدت لتلامس جدران الألم البشري، في غزة، وفي بيت لحم، وعلى كل شبر يئن تحت ظلم الاحتلال والعدوان.
عرفت انه استاذًا جامعيا ويعشق الفلسفة.. سعدت بلقائه مرتين.. الأولى أثناء زيارته للقاهرة وفي أثناء مؤتمر السلام الذي نظّمه الأزهر الشريف في عام 2017، والثانية في الفاتيكان عندما استضافنا في دار الضيافة الملحقة بمقر سكنه في اثناء حضوري لمؤتمر عن المشتركات بين الإسلام والمسيحيه والذي نظمه المعهد الملكي للدراسات الدينية برئاسة الأمير الحسن بن طلال بالتعاون مع مركز الحوار في الفاتيكان.
رأيت فيه رجلا حكيمًا ولطيفًا والأهم رجل دين بمعنى الكلمة.. إن ابرز محطاته بالنسبة لنا في الأزهر الشريف والمهتمين بالحوار بين الاديان هي وثيقة الاخوة الإنسانية، إلا أنني سأعرض بعض الملامح العظيمة والتي وجدتها في غاية الأهمية والسمو وتستحق ان نسلط الضوء عليها.
25 مايو 2014 كان تاريخًا لا يُنسى. ففي مشهد فاجأ العالم، وخالف كل بروتوكول، توقّف البابا فرنسيس فجأة عند الجدار العازل الذي أقامته إسرائيل حول الشعب الفلسطيني، وانحنى للصلاة أمامه. لم يكن ذلك جدارًا عاديًا، بل رمزًا للقهر والعزلة والاحتلال، وقد بدا البابا في تلك اللحظة وكأنه يصلّي على «حائط مبكى» جديد، لكن هذه المرة لأجل شعب يُحاصر، لا لأجل سلطة تُكرّس الاحتلال.
على الجدار، كانت عبارات كتبها الفلسطينيون تطالب بالحرية، وبجانبه رُفعت الأعلام الفلسطينية، ورفرفت الكرامة في لحظة نادرة من الإنصاف الروحي. لم تكن تلك زيارة بروتوكولية، بل شهادة حية، وموقف نبويّ في وجه صمت العالم.
حينها، دعا البابا القادة الفلسطينيين والإسرائيليين للصلاة معًا في الفاتيكان من أجل السلام، مؤكدًا أن “السلام معقد، ولكن العيش بدونه هو عذاب دائم”. وفي وقت صعّدت فيه إسرائيل إجراءاتها القمعية، رفض البابا الانحياز إلى الأقوى، وأصر على أن للفلسطينيين حقًا في وطنٍ ذي سيادة.
لم ينسَ نتنياهو تلك اللحظة. فجن جنونه، وأصرّ على ترتيب زيارة فورية للبابا إلى نصب “ضحايا الإرهاب الإسرائيلي”، في محاولة للتعتيم على رمزية الوقوف أمام الجدار. لكن البابا كان قد قال كلمته، بالصمت، وبلغة العيون، التي قرأها العالم، وارتعدت منها حسابات السياسة.
عشر سنوات مرت، غادر البابا الحياة، لكنه بقي شاهدًا على واحدة من أبشع جرائم العصر: الإبادة البطيئة لشعب غزة، دون تمييز بين مسجد وكنيسة، ولا بين طفلٍ ومسن. ورغم مرضه، تابع البابا تفاصيل الحياة تحت القصف، وسأل كهنة غزة يوميًا عن الماء، والغذاء، والدواء، في وقت كان فيه كثيرون من الزعماء العرب والمسلمين يتساءلون: “أليست هذه حربًا بين طرفين؟”.
قالها البابا دون مواربة: “هذه ليست حربًا، بل وحشية”. وانتقد بصراحة “غطرسة الغازي” و”قصف الأطفال”، بل وصف ما يجري بأنه “مجزرة يجب أن يُحقّق فيها قانونيًا”، مؤكدًا في كتابه الأخير الرجاء لا يخيب أبدًا أن ما يحدث في غزة “يحمل سمات الإبادة الجماعية”.
في كلمات وداعه، كان البابا على سريره، يُقاوم المرض، ويهمس بالحق، ويصلي من أجل أولئك الذين “يفتقدون للغذاء والماء وحتى الأمل”.
فرانسيس لم يكن مجرد زعيم روحي، بل صوتًا نقيًا في زمن الغبار، رجلًا لم يسقط في فخّ التوازنات السياسية، بل اختار الاصطفاف مع الإنسان، أيًا كان دينه أو موطنه.
إن العالم بعد البابا فرنسيس، أشدّ وحدةً، وأفقر إنصافًا، لكنه سيذكره دومًا كأبٍ روحانيٍّ خاض في السياسة حين صمت السياسيون، ووقف مع فلسطين حين هرب الآخرون إلى الحياد المزيّف.
د. رهام سلامة؛ مديرة مركز الأزهر لمكافحة التطرف

