تحولات الدكتور أسامة الغزالي حرب عديدة، لكنه فيما يبدو يشعر أنه دخل مرحلة طى النسيان فى الفترة الأخيرة، فأراد أن يعود إلى قلب دائرة الضوء فلم يجد إلا قلب الحقائق التى كان يوماً ما يؤمن بها، فالرجل الذى بدأ حياته السياسية شاباً فى صفوف اليسار ينقلب فجأة ليدعو إلى العودة إلى عصر ما قبل ثورة يوليو من خلال ما طرحه من منح الألقاب بمقابل مالى، كما لو كان يعجبه مجتمع السادة والعبيد الذى تخلصنا منه منذ زمن طويل.
وبدايةً، ليس عيباً أن ينقلب الشخص على أفكاره وينتقل من معسكر إلى آخر، فقد اختار أن يترك عقيدته اليسارية وأعلن في عام 1987 اقتناعه وتبنيه للفكر الليبرالى وانضم إلى المجلس الأعلى لأمانة السياسات بالحزب الوطني عام 1998 واستقال منه في عام 2006، اعتراضاً على سياسات الحزب، كما لو كان لا يعرف حقيقة تلك السياسات وهو المفكر السياسى المرموق.. ومع ذلك، فإنه فى كل هذا حرٌ فى تنقلاته فقد يكون قد رأى ما لا يراه غيره من المشتغلين بالسياسة.
لكن الطامة الكبرى تأتى من اقتراحه الأخير الذى يأتى فى سياق غامض ومن كاتب سياسى كبير إختاره د. بطرس غالى في عام 1992 لخلافته في رئاسة تحرير مجلة «السياسة الدولية» وظل في هذا المنصب حتى يناير 2011.. وما أدراك ما مجلة «السياسة الدولية» كمجلة محكمة لها سمعتها العلمية على مستوى الوطن العربى بل بين معظم مؤسسات البحث العلمى فى العالم.
حزين إلى أقصى درجة أن تأتى تلك الدعوة البغيضة من باحث أكاديمى يُعد مرجعاً لشباب الباحثين في الشئون السياسية بالعالم العربي وشارك خلال رحلة عمره في العديد من المؤتمرات والندوات الدولية المعنية بالشئون السياسية في مصر والوطن العربى وفى العديد من دول العالم.. فقد كنا نتوقع أن يأتى هذا المقترح من الباحثين عن التريند أو هواة التنكيت والمزاح وشغل الناس بالتوافه.. فهل انزلق، عفواً، الدكتور أسامة إلى هذا المستوى للفت الأنظار بعد إثنى عشر عاماً بالتمام والكمال من كتابة عموده اليومى «كلمات حرة» دون أن يلفت انتباه أى شخص من قارئى «الأهرام»؟.
لكن الدكتور أسامة تحول فجأة بحيث لا يرى أمامه إلا الأغنياء، وحاول اللعب على وتر حساس بحثاً عن أية وسيلة لجمع المال، وزعم أن منح لقب «الباشا» لا يعني العودة إلى النظام الطبقي أو الأرستقراطي، بل يُعد بمثابة «وسام شرف» أو «درجة تكريمية» إلى آخر ما أدلى به من تصريحات عقب الهجوم الكاسح على اقتراحه الغريب.
يا سيدى.. وسام الشرف يزينه كثيرون فى هذا الوطن، يتصدرهم شهداؤنا من الجيش والشرطة، الذين بذلوا حياتهم دفاعاً عن أمننا وأماننا ويمثلون فخراً لكل مصرى يؤمن بوطنه وبالدفاع عنه وبذل الغالى والرخيص من أجله.
وسام الشرف يندرج تحته الملايين المنتشرين فى أرجاء مصر يكدون ويتعبون فى المزارع والمصانع وفى كل مكان يعلو فيه البناء إذ يشاركون بجهدهم وعرقهم فى إضافة حقيقية للدخل القومى وبناء الاقتصاد الوطنى.
وسام الشرف يزخر بالآلاف من النساء المصريات اللاتى يتولين رعاية أسرهن بعد غياب العائل وبقيت فقط عزيمة وإرادة الست المصرية بكل ما يعنيه ذلك من قيم أصيلة فى مجتمعنا العريق.
وسام الشرف يضم أيضاً الآلاف أو قل الملايين من المهندسين والأطباء والفنيين والعلماء والباحثين وأصحاب التخصصات النادرة وغيرهم ممن يعملون فى صمت من أجل رفعة الوطن وإعلاء شأنه.
ولو عددنا الكثير ممن يستحقون وسام الشرف فقد لا تستطيع الصفحات استيعابهم.. وإذا كان قلبك، يا سيد أسامة، على خزينة البلد فهناك وسائل عديدة تضمن حق الوطن ومدرجة فى الدستور الذى تريد الانقضاض عليه وتغييره بعد أن ألغيت الرتب والألقاب المدنية منذ بدايات ثورة يوليو حتى آخر دستور عام 2014.. ومن تلك الوسائل التى تضمن حق الدولة وسيلة اسمها «الضرائب التصاعدية» ومن المؤكد أنك تعلمها علم اليقين بحكم تخصصك، ومن المؤكد أنك تعرف أن هذه الضريبة إختراع رأسمالى بحت تفتق عنه ذهن رأسمالى منذ عام 1920 أو قبل ذلك بقليل لضمان توزيع الأعباء بشكلٍ عادل ولضمان الحصول على حق المجتمع، وتصل هذه الضريبة إلى نسب مرتفعة يدفعها المستثمر عن طيب خاطر دون أن نسمع أن مستثمراً ألمانياً مثلاً صفى مصانعه وغادر البلاد أو مستثمراً بريطانياً هرب فى جنح الليل دون أن يسدد ما عليه للبلد.. ويا ليتك تعود إلى صوابك وتشد حيلك معانا وتطالب بسرعة تطبيق الضريبة التصاعدية على أثرياء المستثمرين بدلاً من أن تطالب بمنحهم ألقاباً تعيدنا إلى عصور انتهت منذ زمن إلا إذا كنت تفكر، حال تمرير اقتراحك المشبوه، فى العودة أيضاً إلى زمن الإقطاع وسحب أراضى الإصلاح الزراعى من ورثة من تملوكها على أن يدفعوا بأثر رجعى حصيلة استفادتهم من تلك الأرض، وكمان بالمرة: ما رأيك فى عودة الطربوش وإلزام الجميع بإرتدائه، ويا سلام لو يرجع زمن الفلاحين الحفاة لكى ترضى ضميرك وضمير الذين يتوقون لهدم كل الإنجازات الوطنية لصالح قلة حققت ثروتها على حساب شعب مطحون ومن خلال مزايا منحتها لهم الدولة دون مقابل، خاصةً فى عهد ما قبل يناير 2011.
ارحمنا وحياتك، فالجمهورية الجديدة تحتاج إلى أفكار مخلصة بعيداً عن الهذيان الذى يضر ولا ينفع.. وأنت لك العديد من المؤلفات المرجع للباحثين وكان آخرها كتاب «مصر تراجع نفسها».. فياريت تراجع نفسك وتسترد ما تبقى من حمرة الخجل وتحترم كل من يستحقون علو شانهم ووضعهم على قائمة وسام الشرف وعلى رأسهم شهداء الوطن.. ويمكنك أن تعود إلى منتصف هذا المقال لتعيد قراءة أبطال تلك القائمة المشرفة بعيداً عن هرطقات لا أنزل الله بها من سلطان.