عدت أكثر من مرة لمشاهدة فيلم قمر 14، بطولة كاميليا ومحمود ذو الفقار ووداد حمدي، تأليف عبد الفتاح السيد، وإخراج نيازي مصطفى، وإنتاج عام 1950، لأتأكد من أسطورة متداولة بقوة حول مشهد تدعو فيه وداد حمدي على كاميليا بقولها: "يا رب تموتي محروقة"، فترد عليها كاميليا بالدعاء: "تموتي بسكينة في قلبك". وهو المشهد الذي يُقال إنه تحقق بحذافيره، فقد ماتت الجميلة كاميليا محترقة في حادث طائرة غامض بعد أربعة شهور فقط من تلك الدعوة، وماتت وداد حمدي مقتولة بسكين بعد 44 عامًا من عرض الفيلم، أي في عام 1994.
هذه الأكذوبة الظريفة يحلو لعشاق الدراما الجدل حولها، فهل هي مجرد صدفة أم تحقيق للدعوة في زمن كانت فيه السماء مفتوحة؟ وأقول "أكذوبة" لأنني عدت للمشهد أكثر من مرة ولم أجد تلك العبارات، بل فقط تقول وداد حمدي لكاميليا: "تتحرقي في نار جهنم"، ولم أسمع دعوة كاميليا عن ضربة السكين.
هنا فقط تدرك حالة العشق الكبير للدراما في نفوس المصريين ومدى قوة نفوذها وتغلغلها في وعيهم، الأمر الذي يظهر في العودة إليها واعتبارها ذاكرة وجدانية حية تُفسر وتُبرر الحوادث وتنسج حولها الأساطير. هذا العشق والتعايش الكبير مع الكثير من الشخصيات الدرامية يصل بكثيرين إلى حالة من الهوس والشغف والاهتمام، الأمر الذي يفوق مجرد التسلية وتمضية الوقت أو قتله أمام الشاشات.
فأنت تجد صفحات تعود للأفلام والمسلسلات وتقرأها بل وتقلبها رأسًا على عقب. من ذلك، مثلًا، تحول الرؤية الحديثة لأشهر فيلم دعائي لثورة يوليو، وهو فيلم ،"رد قلبي"، إلى مبرر للهجوم عليها. فالجنايني الرئيس عمر عبد الواحد (حسين رياض)، الذي كان رمزًا لقهر الباشا الإقطاعي، تحول في الرؤية الجديدة إلى متمرد، لأنه يعيش في بحبوحة داخل بيت كبير بحديقة واسعة ويدخل ولديه كليتي الشرطة والحربية، وهو الأمر الذي لم يعد يتحقق بعد الثورة. أي أن رسالة الفيلم قُلبت من النقيض إلى النقيض تمامًا، خاصة في المشهد الذي قال فيه الضابط صلاح ذو الفقار جملة: "هنخربها ونقعد على تلها".
كذلك تغيرت الرؤية حول فيلم "شباب امرأة "للمخرج الكبير صلاح أبو سيف، بطولة تحية كاريوكا وشكري سرحان. فقد كانت النقمة كلها تصب على تحية (شفاعات) التي استغلت الشاب البريء (إمام) جنسيًا، وماتت شر ميتة. ولكن بعد انتشار الرؤى النسوية ومراحل النضج، ظهر أن ذكورية الفيلم فجَّة، وأن هذا الشاب لم يكن بريئًا تمامًا، بل هو أيضًا استغلها واستفاد منها، ولو كانت هناك عدالة في العقاب، لاستحق أن يموت مثلها.
إذًا، الدراما ليست مجرد أفلام وحلقات، بل لها تأثيرات مباشرة وغير مباشرة. ولا أقصد هنا فقط التأكيد على أهميتها، بل أقصد صعوبة وضعها في قالب واحد يناسب جميع الأذواق. فهناك أكثر من 100 مليون مشاهد مصري، وأكثر من 200 مليون مشاهد عربي للمنتج الدرامي الناطق بالعربية. وهؤلاء الملايين ينتمون إلى ثقافات مختلفة وخلفيات مجتمعية متعددة.
ولا حل أمام تقديم وجبات درامية تناسبهم سوى الحرية في الإبداع والتعدد في الإنتاج، وتركهم أحرارًا في التلاقي والتفسير والتشجيع والهجوم، فكل عمل درامي له أكثر من وجه. فمثلًا، إذا أشدنا بمسلسل رائع مثل" أولاد الشمس" لأنه طرح قضية الأيتام ومؤسسات تربيتهم واستغلالهم في جانب إيجابي، فقد يرى البعض جانبًا سلبيًا يتمثل في كشفه لوجود أطفال لقطاء كثر. فلكل جانب إيجابي ظل سلبي.
وإذا لم يعجبك مسلسل مثل أش أش، ورأيت فيه ظلًا لأفلام حسن الإمام عن الراقصات، ووجدت أن تمثيل مي عمر مفتعل، فهناك من يرى أن الراقصات فئة موجودة في المجتمع تتحدى السلفية الصلبة، وأن تمثيل ماجد المصري في دور "رجب الجريتلي" كان فوق الرائع، وأن المسلسل مسلٍّ جدًا. وهكذا، لا يمكن أن يرتدي الجميع لونًا واحدًا، أو أن يأكل كل الناس بمعلقة واحدة.
إفيه قبل الوداع
يا ناعمة يا غريبة!
الدراما قوية "ناعمة"، لكنها ليست دائمًا طيبة.