8 سنوات على رحيل الأستاذ
كان الأستاذ المعلم صارماً فى الأمور العلمية ويتابع مطالعات الباحثين والخبراء في المركز للكتب والمقالات العلمية وغيرها من القراءات في الأدب والفنون والتاريخ والفلسفة
معارفه الواسعة بالقانون والسياسة والاستراتيجية والأدب والفنون تشكل روافد فى كتاباته وفى نسقه اللغوى المتفرد

نظرة طائر على مسارات تطور الفكر المصرى الحديث منذ منتصف القرن الثامن عشر، وأواخر القرن التاسع عشر، حتى القرن العشرين، تشير إلى أدوار بعض الأساتذة الكبار المعلمين الذين أسهموا فى نقد الموروثات التقليدية التى يُعاد إنتاجها على الرغم من أنها مستمدة من سياقات واقع تاريخى قديم منذ قرون، حاملةً معها ظروف عصرها، وثقافته وقيمه وأسئلته، من خلال الاجتهادات الفقية أو الكلامية وأعراف الجماعات في هذه العصور الماضية، ويراد لها أن تحكم حياة المصريين، والمجتمعات العربية، على الرغم من التحولات الكبرى والقطيعة مع هذه العصور التى مضت. علي عديد المستويات .
هذا الدور النقدى الخلاق، ظل محصوراً فى بعض هؤلاء الأساتذة الكبار، الذين صدموا العقل المصرى النقلى المسيطر، وخاصةً لدى رجال الدين، بعضهم الآخر ساهم فى محاولة بناء الجسور بين متغيرات العصر الحديث، والمعاصر، وبين النص المقدس من خلال آليات التأويل للنصوص الدينية المقدسة والسّنوية من خلال المقاربة التوفيقية، التى تحولت لدى بعضهم إلى التلفيق بين بعض المتناقضات. بعضهم الاخر لعب دوره النقدى، والتحليلى، من خلال الاطلاع على مصادر التجديد، والتطور فى العلوم الاجتماعية، والقانونية، والسياسية، والفلسفية والسيوسيولوجية والأدبية، وفى ذات الوقت قاموا بدور المعلمين، من خلال دورهم فى نقل المعارف الحداثية وشبه الحداثية فى تخصصاتهم، أو فى عديد من فروع العلوم الاجتماعية، إلى أجيال متعاقبة من تلاميذهم، سواء فى الجامعة ومراكز البحث، أو الصحافة، وكتاباتهم الصحفية، أو مؤلفاتهم العديدة.
الأستاذ المعلم السيد يسين، يمثل واحداً ممن جمعوا فى أعطافهم، وأدوارهم العامة، وإنتاجهم العلمى، غالب هذه الأدوار فى فكره وشخصه.
جاء السيد يسين من مصادر تكوينية متعددة، من الفكر الإسلامى، ومصادره من خلال الانخراط فى أثناء دراسته الثانوية، فى بعض الفكر الإسلامى النقلى مع مقاربات جماعة الإخوان المسلمين، من خلال أحد أساتذته من ذوى العقول المنفتحة، على الرغم من أنه كان ضريراً لكن عقله المتميز، كان يطرح الأسئلة المختلفة، ويحاول الإجابة عليها.
كانت بصيرة أستاذه حادة، حتى بعد دراسته فى كلية الآداب، من هنا استلهم السيد يسين من أستاذه رحابة العقل النقدى، ومعرفة بعض الموروث الفقهى والكلامى، وثقافة السؤال. انتقل السيد يسين من مقاربة بعض الخطاب فى المسجد، إلى كلية الحقوق، وامتلك ملكة الخطابة الشفاهية، المحمولة على الأسئلة. من خلال الدرس الأكاديمى فى كلية الحقوق بجامعة الأسكندرية، حيث عالم التجريد، والانضباط فى التفسير والتأويل للأنساق القانونية، والنصوص فى كافة فروع القانون العام، والمدنى، والدولى، والتجارى، والبحرى، والشريعة الإسلامية.
عالم كلية الحقوق والدرس الأكاديمى في رحابها، هو عالم النصوص والنظريات، والمفاهيم، والاصطلاحات، والأهم ملكات التحليل والتأويل والتفسير، والانضباط .عالم سيادة التجريد، والشكلانية – إلا بعض الاستثناءات -، وهو ما أجاده "الأستاذ المعلم"، وأيضاً مع معرفته بالشريعة، والتناقضات بين عالم النقل، والعقل، بين الأشاعرة، والمعتزلة.
بعد تخرجه من كلية الحقوق،عُين بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية، وانتقل إلى عالم فكرى أوسع، حيث دراسة الظواهر الاجتماعية، والمشكلات والأزمات المجتمعية، وعالم ماوراء النظام القانونى الكلى، وأنظمته الفرعية، حيث فضاءات القوة، والسلطة، والمصالح الطبقية، المسيطرة التى تفرض نفسها بقوة فى القانون، والسياسة، والاجتماع ومسارات الحياة والتمييزات الطبقية الحادة والقاسية في مجتمع متخلف تاريخياً.. إلخ.
درس السيد يسين علم الاجتماع وفروعه، ومارس البحث الحقلي والتطبيقي، ومعه علم الاجتماع القانونى، فى تكوين ذى مستويات رفيعة وعميقة، ومعه تغيرت مقارباته للقانون ، والسياسة، والسلطة، والأدب، والفنون، والثقافة.. إلخ.
تعرفت على أفكار الأستاذ المعلم السيد يسين من خلال كتابه "السلوك الإجرامى ومعاملة المذنبين"، وأنا طالب فى كلية الحقوق فى السنة الأولى، ومن خلاله فتح أمامى افاق واسعة فى دراسة السلوك الإجرامى والعقابى من خلال التحليل السوسيو قانونى والواقعى مستصحباً الواقع الموضوعى، واختلالاته ومصادره التى تنتج السلوك الإجرامى.
ثم كتاب "أسس البحث الاجتماعى" مع آخرين، و"التحليل الاجتماعى للأدب"، و"الشخصية العربية بين مفهوم الذات وصورة الآخر (1973)، والسياسة الجنائية المعاصرة.. كتب تفتح آفاق جديدة أمام العقل والوعى السياسى والقانونى والاجتماعى.
ثم تعرفت شخصياً عليه من خلال أستاذى الكبير الدكتور حسام عيسى، الذى رشحنى إليه، وذهب معى إلى منزله، وتحاورنا، وطلب خطة بحث عن الصراع بين القانون الحديث، وبين التقاليد فى مصر واليابان، وذلك بعد نقاشات وأسئلة، ومحاولته استكشاف عقل هذا المحامى الشاب الذى يعمل فى مكتب سابا باشا حبشى، أحد أكبر رجال القانون المصريين الذين عرفتهم المحاماة، وهاجر إلى أمريكا مع زميله الأستاذ سامى فهمى الذى عمل مستشاراً لشركة أرامكو، وكان سابا باشا قد وضع اتفاقيات النفط بين الشركة والحكومة السعودية، وعمل سابا باشا أستاذاً للشريعة الإسلامية فى جامعة كولومبيا، وفتح مكتباً للمحاماة فى نيويورك، وتسلم المكتب في القاهرة تلامذته عادل كامل وشفيق إلياس. كان المكتب أحد مدارس المحاماة والقانون فى مصر والشرق الأوسط كله.
الأستاذ المعلم بعد أن طلب وضع خطة للبحث، وقمت بها – 17 صفحة بخط اليد – طلبنى لمقابلته مساءاً في منزله بجوار المركز القومي للبحوث القانونية والاجتماعية وكان قريباً من منزلنا بالمساكن الشعبية بالكيت كات، وكان يُعد للسفر في فجر ذات اليوم لأحد المؤتمرات فى الولايات المتحدة، وقال لى: هل ستستمر فى طلب الدخول إلى النيابة العامة، أم حسمت أمرك للعمل فى مجال البحث العلمى الاجتماعى؟، قلت بحسم: أنا أقرب إلى عالم العقل والبحث والأفكار.. كرر السؤال مراراً، قلت: حسمت أمرى.. قال: عندما أرجع من المؤتمر بأمريكا، سوف أعينك مع وحيد عبد المجيد.. وفعلها الأستاذ المعلم، وانتقلت للعمل باحثاً بالمركز مع أخى وصديقي العزيز الباحث الكبير والمثقف البارز منذ شبابه وحيد عبدالمجيد.. كان سمت الأستاذ المعلم هو علامة السيد يسين، يبدع الأفكار، ويتابع تطورات الفكر العالمى على نحو ما تشير كتبه، حول ظواهر وتحولات عالمنا المتغير، وواقعنا الاجتماعى والسياسى المضطرب منذ عصر السادات إلى أن توفاه الله.
كان الأستاذ المعلم صارماً فى الأمور العلمية، ويتابع مطالعات الباحثين ووالخبراء في المركز للكتب والمقالات العلمية ، وغيرها من القراءات في الأدب والفنون والتاريخ والفلسفة.. إلخ. كان –ما أصعب كان- هو المؤسس الحقيقى لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، وواضع أسسه العلمية، وكان يختار الباحثين بعناية فائقة، وبناءاً على اختبارات بحثية وعقلية متتالية، ولا يعين شخصاً إلا بعد إثبات جدارته بالانتماء للمركز.
كان الأستاذ المعلم صارماً فى مساءلة أى باحث أو خبير عن عمله وأدائه البحثى.. كان يجمع بين دور المعلم، ومدير المركز، وبين الكاتب المبدع فى كتاباته، وكتبه العديدة.. كانت معارفه الواسعة بالقانون والسياسة والاستراتيجية والأدب والفنون، تشكل روافد معرفية وأسلوبية فى كتاباته، وفى نسقه اللغوى المتفرد.
كان أستاذى العظيم رغم صرامته الظاهرة وهيبته ذات الظلال المهيمنة على كل من حوله، يمتلك حساً ساخراً، يفجر الضحكات من قلب التناقضات، وتفاهات بعض من فى السلطة، وكان يجيد ببراعة التعامل مع منطق الدولة، ويناور، ويحتوى، ويهاجم فى براعةٍ وذكاء.
كان أستاذنا العظيم، هو كبيرنا الذى علمنا السحر، فى البحث، والكتابة، والمعرفة، ومصادرها المتنامية والمتطورة فى الغرب، وعالمنا العربى. وأيضاً فى فهم عقل الدولة، والبيروقراطية - أصدر كتاباً بالإنجليزية مع الصديق المرحوم د. علي ليلة وأستاذ أمريكي - وكيفية التعامل معها مناورةً، وتجاوزاً، ونقداً.
كبيرنا الذى علمنا السحر، أحد بناة العقل المصرى المعاصر منذ النصف الثانى من القرن العشرين، حتى سفره الطويل فى الغروب، ولا يزال أثره قائما في حياتنا الفكرية المصرية والعربية ، وسيأتي الوقت للكتابة الضافية عنه وعن مركزنا، وغيره من الشخصيات والعقول الكبرى التي تقابلت معها وعرفتها عن قرب.. السلام إلى روحك، وعقلك الكبير أيها المعلم الكبير والمثقف البارز مصرياً وعربياً، وأنت فى سفرك الطويل فى الغروب، أيها الأستاذ المعلم كبير المكانة ورفيع المقام السلام.. السلام.. السلام لروحك الجميلة وعقلك المبدع الوثاب.





