في كل ليلة، تنسج شهرزاد من وحي خيالها باقة من أروع القصص والحكايات ما يجعل زوجها الملك شهريار، يتلهَّف إلى سماع النهايات. تتوالى الليالي، وتتنوع الشخصيات في حكايات شهرزاد العجيبة والمميزة ما بين جنٍّ وسلاطين وقرَدة وغيرها من الكائنات الغريبة، فيزداد شوق الملك إلى سماع المزيد.
تدور القصة الكبرى «ألف ليلة وليلة» حول شهريار وشهرزاد، عندما يكتشف شهريار في بداية الحكاية أن زوجته الأولى لم تكن مخلصة، فيرى أن كل النساء خائنات ويقرر الزواج بعروس جديدة كل يوم وقتلها في صباح اليوم التالي، راقب النساء وحشية شهريار وقتله لبناتهن أمام أعينهن.
لكن شهرزاد، ابنة الوزير، تقنع والدها أن يقدمها إلى شهريار، وتقوم شهرزاد بحكاية قصة لشهريار، ولكنها توقف قصتها في لحظة حاسمة، لذلك يؤجل شهريار قتلها إلى الليلة التالية، وهكذا تستمر شهرزاد برواية القصص لمدة 1001 ليلة.
اختارت «البوابة نيوز» لقرائها ثلاثين ليلة من تلك الليالي؛ والتي سوف نقرأها معا طول أيام شهر رمضان المبارك.

وقالت شهرزاد:
بلغني أيها الملك السعيد، أن أخت بشر الحافي قصدت أحمد بن حنبل فقالت له: يا إمام الدين، إنَّا قوم نغزل بالليل، ونشتغل بمعاشنا في النهار، وربما تمرُّ بنا مشاعل ولاة بغداد، ونحن على السطح نغزل في ضوئها، فهل يُحرَّم علينا ذلك؟ قال لها: مَن أنت؟ قالت: أخت بشر الحافي. فقال: يا أهل بشر، لا أزال أستشف الورع من قلوبكم. وقال بعض العارفين: إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا، فتح عليه باب العمل. وكان مالك بن دينار إذا مرَّ في السوق ورأى ما يشتهيه يقول: يا نفس اصبري، فلا أوافقك على ما تريدين. وقال رضي الله عنه: سلامة النفس في مخالفتها، وبلاؤها في متابعتها. وقال منصور بن عمار: حججتُ حجة فقصدت مكة من طريق الكوفة، وكانت ليلة مظلمة، وإذا بصارخ يصرخ في جوف الليل ويقول: إلهي، وعزتك وجلالك، ما أردتُ بمعصيتي مخالفتَك، وما أنا جاهل، ولكن خطيئة قضيتها عليَّ في قديم أزلك، فاغفر لي ما فرط مني، فإني قد عصيتك بجهلي. فلما فرغ من دعائه تلا هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ. وسمعت سقطة لم أعرف لها حقيقة، فمضيت، فلما كان الغد مَشَيْنا إلى مدرجنا وإذا بجنازة خرجت، ووراءها عجوز ذهبت قوتها، فسألتها عن الميت، فقالت: هذه جنازة رجل كان مرَّ بنا البارحة وولدي قائم يصلي، فتلا آيةً من كتاب الله تعالى، فانفطرت مرارةُ ذلك الرجل فوقع ميتًا.
وأضافت: ها أنا أذكر بعض ما يحضرني من أخبار السلف الصالح: كان مسلمة بن دينار يقول: عند تصحيح الضمائر تُغفَر الصغائر والكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام أتاه الفتوح. وقال: كلُّ نعمة لا تقرِّب إلى الله فهي بليَّة، وقليلُ الدنيا يشغل عن كثير الآخرة، وكثيرها يُنسِيك قليلها. وسُئِل أبو حازم: مَن أيسر الناس؟ فقال: رجل أذهب عمره في طاعة الله. قال: فمَن أحمق الناس؟ قال: رجل باع آخِرته بدنيا غيره. وروي أن موسى — عليه السلام — لما ورد ماء مدين قال: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. فسأل موسى ربه ولم يسأل الناس، وجاءت الجاريتان فسقى لهما، ولم تُصدر الرعاء، فلما رجعتا أخبرتا أباهما شعيبًا، فقال: لعله جائع. ثم قال لإحداهما: ارجعي إليه وادعيه. فلما أتته غطَّت وجهها وقالت: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا. فكره موسى ذلك، وأراد ألا يتبعها، وكانت امرأة ذات عَجُز، فكانت الريح تضرب ثوبها فيظهر لموسى عَجُزها، فيغضُّ بصرَه، ثم قال لها: كوني خلفي.
فدخل موسى — عليه السلام — على شعيب والعشاء مهيَّأ، فقال شعيب لموسى: يا موسى، إني أريد أن أعطيك أجرة ما سقيتَ لهما. فقال موسى: أنا من أهل بيت لا نبيع شيئًا من عمل الآخرة بما على الأرض من ذهب وفضة. فقال شعيب: يا شاب، ولكن أنت ضيفي، وإكرام الضيف عادتي وعادة آبائي بإطعام الطعام. فجلس موسى فأكل، ثم إن شعيبًا استأجر موسى ثماني حجج؛ أي سنين، وجعل أجرته على ذلك تزويجه إحدى بنتيه، وكان عمل موسى لشعيب صداقًا لها، كما قال تعالى حكايةً عنه: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ. وقال رجل لبعض أصحابه، وكان له مدة لم يَرَه: إنك أوحشتني؛ لأنني ما رأيتُك من منذ زمان. قال: اشتغلت عنك بابن شهاب، أتعرفه؟ قال: نعم، هو جاري من منذ ثلاثين سنة إلا أنني لم أكلمه. قال له: إنك نسيت الله فنسيت جارك، ولو أحببتَ الله لَأحببتَ جارك، أَمَا علمتَ أن للجار على الجار حقًّا كحق القرابة؟ وقال حذيفة: دخلنا مكة مع إبراهيم بن أدهم، وكان شقيق البلخي قد حجَّ في تلك السنة، فاجتمعنا في الطواف، فقال إبراهيم لشقيق: ما شأنكم في بلادكم؟ فقال شقيق: إننا إذا رُزِقنا أكلنا، وإذا جعنا صبرنا. فقال: كذا تفعل كلاب بلخ، ولكننا إذا رُزِقنا آثرنا، وإذا جعنا شكرنا. فجلس شقيق بين يدي إبراهيم وقال له: أنت أستاذي. وقال محمد بن عمران: سأل رجل حاتمًا الأصم فقال: ما أمرك في التوكُّل على الله تعالى؟ قال: على خصلتين: علمتُ أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنَّتْ نفسي به، وعلمت أني لم أُخلَق من غير علم الله فاستحييت منه.
ثم تقدَّمَتِ عجوزًا وقبَّلت الأرض بين يَدَيْ والدك تسع مرات، وقالت: قد سمعتَ أيها الملك ما تكلَّم به الجميع في باب الزهد، وأنا تابعة لهن، فأذكر بعض ما بلغني عن أكابر المتقدمين. قيل: كان الإمام الشافعي يقسِّم الليلَ ثلاثة أقسام: الثلث الأول للعلم، والثاني للنوم، والثالث للتهجُّد، وكان الإمام أبو حنيفة يُحيِي نصفَ الليل، فأشار إليه إنسان وهو يمشي وقال لآخَر: إن هذا يُحيِي الليلَ كله. فلما سمع قال: إني أستحي من الله أن أُوصَف بما ليس فيَّ. فصار بعد ذلك يحيي الليل كله. وقال الربيع: كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان سبعين مرة، كل ذلك في الصلاة. وقال الشافعي رضي الله عنه: ما شبعتُ من خبز الشعير عشر سنين؛ لأن الشبع يقسي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن القيام. ورُوِي عن عبد الله بن محمد السكري أنه قال: كنت أنا وعمر نتحدث، فقال لي: ما رأيت أروع ولا أفصح من محمد بن إدريس الشافعي. واتفق أنني خرجت أنا والحارث بن لبيب الصفار، وكان الحارث تلميذ المزني، وكان صوته حسنًا، فقرأ قوله تعالى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، فرأيت الإمام الشافعي تغيَّر لونه، واقشعرَّ جلده، واضطرب اضطرابًا شديدًا، وخرَّ مغشيًّا عليه، فلما أفاق قال: أعوذ بالله من مقام الكذابين، وإعراض الغافلين، اللهم لك خشعَتْ قلوبُ العارفين، اللهم هَبْ لي غفران ذنوبي من جودك، وجمِّلني بسترك، واعفُ عن تقصيري بكرم وجهك. ثم قمت وانصرفت. وقال بعض الثقات: فلما دخلت بغداد كان الشافعي بها، فجلست على الشاطئ لأتوضأ للصلاة إذ مرَّ بي إنسان، فقال لي: يا غلام، أحسِنْ وضوءك يُحسِن الله إليك في الدنيا والآخرة. فالتفتُّ وإذا برجل يتبعه جماعة، فأسرعت في وضوئي، وجعلت أقفو أثره، فالتفت إليَّ وقال: هل لك من حاجة؟ فقلت: نعم، تعلِّمني ممَّا علَّمك الله تعالى. فقال: اعلم أن مَن صدق الله نجا، ومَن أشفق على دينه سلم من الردى، ومن زهد في الدنيا قرَّت عيناه غدًا، أفلا أزيدك؟ قلت: بلى. قال: كن في الدنيا زاهدًا، وفي الآخرة راغبًا، واصدق في جميع أمورك تَنْجُ مع الناجين. ثم مضى، فسألتُ عنه، فقيل لي: هذا الإمام الشافعي. وكان الإمام الشافعي يقول: وددتُ أن الناس ينتفعون بهذا العلم على ألَّا يُنسَب إليَّ منه شيء.
قالت العجوز لوالدك: كان الإمام الشافعي يقول: وددتُ أن الناس ينتفعون بهذا العلم على ألَّا يُنسَب إليَّ منه شيء. وقال: ما ناظرتُ أحدًا إلا أحببت أن يوفِّقه الله تعالى للحق، ويُعِينه على إظهاره، وما ناظرتُ أحدًا قطُّ إلا لأجل إظهار الحق، وما أبالي أن يبيِّن الله الحق على لساني أو على لسانه. وقال رضي الله عنه: إذا خفتَ على علمك العُجْبَ فاذكر رضى مَن تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب. وقيل لأبي حنيفة: إن أمير المؤمنين أبا جعفر المنصور قد جعلك قاضيًا، ورسم لك بعشرة آلاف درهم. فما رضي، فلما كان اليوم الذي توقَّعَ أن يُؤتَى إليه فيه بالمال صلَّى الصبح، ثم تغشَّى بثوبه فلم يتكلم، ثم جاء رسول أمير المؤمنين بالمال، فلما دخل عليه وخاطبه فلم يكلمه، فقال له رسول الخليفة: إن هذا المال حلال. فقال: أعلم أنه حلال لي، ولكني أكره أن يقع في قلبي مودة الجبابرة. فقال له: لو دخلتَ إليهم وتحفَّظْتَ من ودِّهم! قال: هل آمَن أن ألج البحرَ ولا تبتل ثيابي؟! ومن كلام الشافعي رضي الله تعالى عنه:
أَلَا يَا نَفْسُ إِنْ تَرْضَيْ بِقَوْلِي فَأَنْتِ عَزِيزَةٌ أَبَدًا غَنِيَّةْ
دَعِي عَنْكِ الْمَطَامِعَ وَالْأَمَانِي فَكَمْ أُمْنِيَّةٌ جَلَبَتْ مَنِيَّةْ
ومن كلام سفيان الثوري فيما أوصى به علي بن الحسن السلمي: عليك بالصدق، وإياك والكذب والخيانة والرياء والعُجْب؛ فإن العمل الصالح يحبطه الله بخصلة من هذه الخصال، ولا تأخذ دينك إلا عمَّن هو مُشفِق على دينه، وَلْيكن جليسك مَن يزهِّدُك في الدنيا، وأكثِرْ ذِكْرَ الموت، وأكثِر الاستغفار، واسأل الله السلامة فيما بقي من عمرك، وانصح كل مؤمن إذا سألك عن أمر دينه، وإياك أن تخون مؤمنًا، فإن مَن خان مؤمنًا فقد خان الله ورسوله، وإياك والجدال والخصام، ودَعْ ما يُرِيبك إلى ما لا يُرِيبك تكن سليمًا، وَأْمُرْ بالمعروف وَانْهَ عن المنكر تكن حبيب الله، وأحسِنْ سريرتك يُحسِن الله علانيتك، واقبل المعذرةَ ممَّن اعتذر إليك، ولا تبغض أحدًا من المسلمين، وصِلْ مَن قطعك، وَاعْفُ عمَّن ظلمك تكن رفيقَ الأنبياء، وَلْيكن أمرك مفوَّضًا إلى الله في السر والعلانية، واخشَ الله خشيةَ مَن قد علم أنه ميت ومبعوث، وصائر إلى الحشر، والوقوف بين يدي الجبار، واذكر مصيرك إلى إحدى الدارين؛ إما جنة عالية، وإما نار حامية.
ثم إن العجوز جلست إلى جانب الجواري، فلما سمع والدك المرحوم كلامهن علم أنهن أفضل أهل زمانهن، ورأى حسنهن وجمالهن، وزيادة أدبهن، فآواهن إليه، وأقبل على العجوز فأكرمها وأخلى لها هي وجواريها القصرَ الذي كانت فيه الملكة إبريزة بنت ملك الروم، ونقل إليهن ما يحتجن إليه من الخيرات، فأقامت عنده عشرة أيام، وكلما دخل عليها يجدها معتكفة على صلاتها، وقيامها في ليلها وصيامها في نهارها، فوقع في قلبه محبتها، وقال لي: يا وزير، إن هذه العجوز من الصالحات، وقد عظمت في قلبي مهابتها. فلما كان اليوم الحادي عشر، اجتمع بها من جهة دفع ثمن الجواري إليها، فقالت له: أيها الملك، اعلم أن ثمن هذه الجواري فوق ما تتعامل به الناس؛ فإني لا أطلب فيهن ذهبًا ولا فضة ولا جواهر، قليلًا كان ذلك أو كثيرًا.
فلما سمع الملك كلامها تعجَّبَ وقال: أيتها السيدة، وما ثمنهن؟ قالت: ما أبيعهن لك إلا بصيام شهر كامل، تصوم نهاره وتقوم ليله لوجه الله تعالى، فإن فعلتَ ذلك فهُنَّ مِلْكٌ لك في قصرك تصنع بهن ما شئتَ. فتعجَّبَ الملك من كمال صلاحها وزهدها وورعها، وعظمت في عينه، وقال: نفعنا الله بهذه المرأة الصالحة. ثم اتفق معها على أن يصوم الشهرَ كما اشترطته عليه، فقالت له: وأنا أُعِينك بدعوات أدعو بهن لك، فائتني بكوز ماء، فأتاها بكوز ماء، فأخذته وقرأت عليه وهمهمت، وقعدت ساعةً تتكلم بكلام لا نفهمه، ولا نعرف منه شيئًا، ثم غطته بخرقة وختمته، وناولته لوالدك وقالت له: إذا صمتَ العشرة الأولى فافطر في الليلة الحادية عشرة على ما في هذا الكوز، فإنه ينزع حبَّ الدنيا من قلبك، ويملؤه نورًا وإيمانًا، وفي غدٍ أخرج إلى إخواني وهم رجال الغيب، فإني اشتقت إليهم، ثم أجيء إليك إذا مضَتِ العشرة الأولى. فأخذ والدك الكوز، ثم نهض وأفرد له خلوة في القصر، ووضع الكوز فيها، وأخذ مفتاح الخلوة في جيبه، فلما كان النهار صام السلطان، وخرجت العجوز إلى حال سبيلها.
ثم أدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.