الثلاثاء 04 مارس 2025
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

سياسة

مصطفى حمزة يكتب: الوسطية والاعتدال في تفسير آيات القرآن

.
.
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تُعَدّ قضية الوسطية والاعتدال في تفسير آيات القرآن الكريم من أبرز القضايا المركزية التي شغلت اهتمام العلماء والدعاة والمفكرين عبر التاريخ الإسلامي، لما لها من أهمية في صياغة منهجٍ واضح لفهم الشريعة وتطبيق أحكامها، وتزداد الحاجة لهذه الوسطية في ظل ما يشهده العالم من تنامي تيارات متشددة، انتسبت إلى الإسلام، ولكنها انحرفت عنه بتأويلاتها الباطلة للنصوص المقدسة، من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، واقتطاعها من سياقها، وتفسيرها على طريقة «لا تقربوا الصلاة» حيث تتنافى هذه التأويلات في كثير منها مع مقاصد الشريعة الإسلامية، في حفظ الدين والدماء والأموال والأعراض والأنفس.

ويُشكّل القرآن الكريم المرجع الأهم لكل مسلم، فمنه تُستمد القيم والمبادئ والأحكام، وتستند إليه أسس العقيدة والسلوك، وهو المصدر الأسمى للتشريع والهداية في الإسلام، ولذلك فقد وجب على المسلمين دائمًا أن يتوجّهوا إليه بفهمٍ سليمٍ ومنهجيةٍ واضحة، قائمة على الالتزام بأصول التفسير المعتبرة، ومراعاة المقاصد الشرعية واللغة العربية وسياق الآيات، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والعام والخاص، وهي مصطلحات يعرفها المتخصصون في هذا العلم من علوم القرآن، وهو علم التفسير.

الوسطية التي نريد

عند النظر إلى مفهوم الوسطية في اللغة العربية نجدها مشتقة من "الوسط"، أي الاعتدال والخيار، ولها معنى الاستقامة على طريق معتدل بين طرفين متقابلين، أو التوسّط بين طرفين.

أمّا اصطلاحًا في السياق الإسلامي، فقد جاءت الوسطية لتعني منهجًا معتدلًا في العقيدة والشريعة والسلوك، بعيدًا عن الغلوّ والإفراط من جانب، وعن التفريط والإهمال من جانب آخر.

والوسطية لا تعني بالضرورة الميوعة أو التهاون في تطبيق الأحكام، أو التراخي أو التنازل عن الأصول، بل تهدف للحفاظٌ على روح الإسلام وجوهر الشريعة ومقاصدها في تحقيق التوازن بين حقوق الفرد والجماعة والمجتمع، وبين أمور الدنيا والآخرة، وبين المتطلبات الروحية والمادية.

وأشار القرآن الكريم إلى مبدأ "الوسطية" في مواضع متعددة، منها قوله تعالى في سورة البقرة: "وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا"، حيث وصف الله تعالى الأمة الإسلامية بأنها أمة "وسط"، أي أنها أمة متوازنة في عقيدتها وشريعتها ومنهجها الأخلاقي، بعيدة عن طرفي الانحراف الفكري أو السلوكي، إفراطًا أو تفريطًا.

كما تعكس نصوص الوحي القرآني وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الوسطية في التشريع والتكليف، وأنّ الله أراد بالتشريع التيسير لا التعسير إذ يقول الله سبحانه وتعالى في السورة نفسها: "يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ"، وهو تأكيدٌ على أنّ الشريعة تقوم على التيسير والتخفيف ورفع الحرج عن الناس.

يمثّل التفسير الطريق الرئيس لفهم القرآن الكريم واستنباط الأحكام والآداب والقيم التي جاء بها. ولقد اعتنى العلماء منذ عهد الصحابة الكرام بهذا المجال، فأسّسوا قواعده وأصوله وضوابطه، ليظلّ فهمُ القرآن منضبطًا بمنهجٍ علميّ يُراعي اللغة العربية، وعلوم البلاغة، وأسباب النزول، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، وغيرها من الأدوات الضرورية.

مدارس التفسير

وتنوعت مدارس التفسير عبر التاريخ الإسلامي، ويمكن حصرها إجمالًا في عدّة اتجاهات رئيسة، من أبرزها:

التفسير بالمأثور: القائم على نقل الروايات المعتبرة عن الصحابة والتابعين فيما يتصل بشرح آيات القرآن، مع إيراد الأحاديث والأخبار التي توضح النص.

التفسير بالرأي: الذي يعتمد على الاجتهاد الشخصي المقيَّد بقواعد اللغة وأصول الشريعة ومقاصدها.

التفسير الموضوعي: الذي يجمع الآيات الواردة في موضوعٍ معيّن، ثم يدرسها دراسةً شموليةً لتقديم رؤية متكاملة حول ذاك الموضوع.

التفسير الإشاري أو الصوفي: الذي يميل إلى استنباط المعاني الباطنية أو الإشارات الروحية من الآيات، ويهتم بالجوانب الذوقية والروحانية.

مع هذا التنوع، يبقى المطلوب هو التزام ضوابط الاستنباط الصحيح حتى لا يقع المفسّر في الإفراط أو التفريط. وهنا تتجلى ملامح الوسطية، إذ ينبغي للمفسّر أن يزن كل تفسيرٍ بميزان الأدلة الشرعية والقواعد الأصولية والمقاصدية.

السياق اللغوي في التفسير

أولى خطوات التفسير السليم هي وضع الآيات في سياقها اللغوي والسياق التاريخي (أسباب النزول) واللحاق الموضوعي (ارتباط الآيات ببعضها)، حيث إنَّ تجاهل السياق قد يؤدّي إلى اجتزاء النصوص من مواضعها، فينحرف معناها وتشملها التأويلات الباطلة أو الإفراطية.

على سبيل المثال، تناول آيات القتال في القرآن دون الالتفات إلى أسباب النزول والسياق التاريخي، قد يدفع بعضهم إلى تفسيرها تفسيرًا متشدّدًا يناقض المقاصد الإسلامية في حفظ النفس ومنع العدوان.

التوفيق بين النصوص

القرآن الكريم نصٌّ متكامل، وله مقاصد عليا تقوم على حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فعندما يأتي المفسّر إلى آيات بعينها، وجب عليه أن يربطها بالمقاصد الشرعية، وألّا يغلّب الجزئي على الكلّي بحيث يخرج عن روح الشريعة، وهذا ما يميّز النهج الوسطي الذي يحافظ على التوازن بين الجزئيات والتفاصيل، وبين المقاصد العامة، فلا يخالف نصًّا قرآنيًّا بجعل نصٍّ آخر أرجحَ منه بلا دليل ولا مبرر شرعي.

وقد تتناول بعض الآيات موضوعًا أو حالةً مخصوصة، ولا يجوز تعميمها على كل الأحوال والظروف، فالآيات التي نزلت في سياق الحروب أو المعاهدات مثلًا، يجب فهمها في إطارها الزمني والسببية دون إنزالها تعميمًا على أحوال المسالمين أو المجتمعات الأخرى زمن السلم، وهذا التزام مهم بالاعتدال في التفسير، إذ يضبطه بقواعد الأصول ويحُدّ من توظيف الآيات لأغراض شخصية أو سياسية أو أيديولوجية.

ومن مظاهر الاعتدال أن يجمع المفسّر كل النصوص المتعلقة بموضوع معيّن قبل إصدار الأحكام أو بناء المفاهيم، فالنظرة المجتزأة لآية أو حديث دون النظر إلى باقي الأدلة قد يسبب فهمًا خاطئًا أو متناقضًا، أمّا الرؤية الشاملة الجامعة، فهي الأساس المتين للتفسير الوسطي.

الرؤى المتشدّدة في التفسير

على الرغم من وضوح النصوص الإسلامية في الدعوة إلى الاعتدال والاتزان، برزت في التاريخ الإسلامي، بل وفي الحاضر أيضًا، اتجاهات أو قراءات متشدّدة تميل إلى الغلوّ والتأويل الحرفي الجامد، أو تُسقِط الأحكام الشرعية على واقعٍ غير واقعه، أو تخرج بآراء منفصلة عن روح القرآن ومقاصده، أو اقتطاع الآيات من سياقها، وفيما يلي أبرز سمات هذه الرؤى المتشددة، مع توضيح الفارق بينها وبين المنهج الوسطي.

من سمات المتشددين التمسّك الحرفي بالظاهر، وإغفال السياقات التاريخية واللغوية والاجتماعية، واقتطاع النصوص من سياقها، على طريقة "لا تقربوا الصلاة"، ممّا يجعلهم يطبّقون النصوص بجمود على أوضاع قد تكون مختلفة جذريًّا عن تلك التي نزلت فيها الآيات، ويؤدي هذا الجمود إلى إصدار أحكام قاسية أو غير مناسبة للواقع المعاصر، بينما النهج الوسطي يقوم على النظر الشامل، وفهم النص وفق السياق المقصود، والتفريق بين العلل الشرعية التي تدور معها الأحكام وجودًا وعدمًا.

الانتقائية في الاستدلال

يعمد بعض المتشددين إلى انتقاء آيات محددة أو أحاديث معيّنة تؤيّد وجهة نظرهم، ويتجاهلون الآيات أو الأحاديث الأخرى التي توضّح الصورة كاملةً، أو تقدّم تقييدات واستثناءات أو معاني إضافية، على سبيل المثال، إذا تناولوا آيات القتال، ركّزوا فقط على الأمر بالقتال، دون أن يُشيروا إلى آيات السلام والعفو والصفح والإحسان، أمّا الرؤية الوسطية فتتطلّب أن يجمع المفسر كل النصوص المتعلقة بموضوع معيّن ليصل إلى حكمٍ متوازن يعكس شمولية الإسلام وعدالته.

تسييس النصوص

من مظاهر التشدد أن تُلوى أعناق النصوص القرآنية لتخدم أهدافًا سياسية أو أيديولوجية، ويجري تجاهل الغاية الأخلاقية والإيمانية التي بُعث بها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يستخدم البعض خطابًا دينيًّا متصلّبًا لتبرير العنف أو لإقصاء الآخرين فكريًّا أو عقديًّا. في المقابل، يحافظ المفسّر الوسطي على الموضوعية العلمية، فلا يسمح بتوظيف النص القرآني خارج مقاصده الشرعية التي تدعو إلى السلم والرحمة والعدل.

الإغراق في التكفير

اتسمت بعض القراءات المتشدّدة بالتسرّع في التكفير أو اتهام المسلمين الآخرين بالبدعة والخروج عن الملّة لأي اختلاف اجتهادي أو فقهي، وهذا المنهج يتناقض مع القاعدة الشرعية: "من ثَبَت إسلامُه بيقين، لم يَزُلْ عنه بالشك"، ومع القواعد الفقهية التي تحضّ على التثبّت في إطلاق الأحكام، أمّا النهج الوسطي، فهو أحرص ما يكون على مراعاة وحدة الصف الإسلامي ورعاية الحرية الفكرية المشروعة ضمن ضوابط الشريعة وأصولها.

آيات الحاكمية وتكفير المجتمعات

من أكثر الآيات التي يستند إليها المتشددون في تكفير الحكومات والمجتمعات برمّتها قوله تعالى في سورة المائدة: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"، حيث يُغلّب بعضهم التفسير الحرفي على كلّ سياق، فيصنِّفون المجتمع أو النظام السياسي كاملًا ضمن دائرة الكفر إذا وقع الخلل في تطبيق بعض جوانب الشريعة.

ويغفل هؤلاء عن التفصيل الذي ذكره أئمة التفسير والسلف الصالح، الذين فرّقوا بين "الكفر الأكبر" الذي يُخرج من الملة إنكارًا للدين أو رفضًا له، وبين "الكفر الأصغر" أو كفر المعصية والظلم والفسق الذي لا يُخرج من الملّة بالضرورة.

فالخطاب أوّلًا موجَّهٌ لليهود الذين أخفوا حكم الله في التوراة وحرّفوه أو أنكروه عمدًا، ما يُعدّ جحودًا صريحًا، كذلك فرّق العلماء بين من ينكر حكمًا شرعيًا ويرفضه من أساسه -فيكون كفره أكبر- وبين من يخالف الحكم الشرعي لفعل المعصية أو اتباع الهوى أو عدم الاستطاعة، مع إقراره بأنّ شرع الله هو الحقّ، فالمخالفة العملية في حق هؤلاء لا تكون كفرًا مخرجًا من الدين.

كما أن المتشددين اقتصروا على الآية الكريمة دون أن يجمعوا بينها وبين الآيات التي تليها، حيث وصفت هذه الآيات الحكم بغير ما أنزل الله بصفات غير الكفر، مثل الظلم والفسق، فضلًا عن أن الإمام عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف أوضحوا ضرورة فهم هذه الآية في ضوء لغة العرب واعتبارات السياق الشرعي والقواعد الفقهية.

آيات الجهاد والقتال

يمثّل موضوع الجهاد أحد أكثر الموضوعات التي ساد فيها اللغط في أوساط بعض التيارات المتشدّدة. إذ يميل هؤلاء إلى أخذ الآيات التي تأمر بالقتال بشكل مطلق ويطبّقونها على كل أحد، من غير تأمّلٍ في أسباب النزول ومقاصد الشريعة. بينما يفسّر المفسّر الوسطي آيات الجهاد في إطار شرعي معيَّن، مبيّنًا أنّها ارتبطت بحالات الدفاع عن النفس وصدّ العدوان، وأنّ الإسلام لم يأمر أبدًا بالقتال لمجرّد الرغبة في إراقة الدماء أو السيطرة.

فالقرآن نفسه يقول في سورة البقرة: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا"، وقد شدّد العلماء على أن "لا تعتدوا" تمثّل قاعدةً أخلاقيةً تنظم سلوك المسلم في الحرب، بعيدًا عن الظلم والتطرّف.

رغم الإشارة إليها مرارًا، تظلّ آيات القتال من أكثر المواضع التي يُسيء المتشدّدون فهمها. فمثلًا قوله تعالى في سورة محمد: "فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ"، يفهمه البعض بصورة مجتزأة على أنّ الإسلام يأمر بإراقة دم كل مخالف في العقيدة، بينما هذه الآية مرتبطة بسياق حربٍ واقعة، ولهذا جاءت قبلها آيات توضّح أنّ الحديث موجَّه إلى المؤمنين في ساحات المعركة.

وهذا يختلف جذريًّا عن السياق العام لعلاقة المسلمين بغيرهم في حالة السلم، فالله تعالى يقول في سورة الممتحنة: "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ"، مؤكدًا جواز البرّ والقسط والعدل مع من لم يعتدِ على المسلمين، وفي السنة النبوية نجد نصوصًا واضحة تحرِّم قتل غير المقاتلين وتنهى عن العدوان.

الولاء والبراء

يستدلّ بعض المتشددين بقوله تعالى في سورة المائدة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ" فيذهبون إلى تحريم أي نوع من العلاقات أو التعاون أو التعامل التجاري مع غير المسلمين، بل قد يدعون إلى العزلة التامة أو المواجهة المستمرة معهم.

وهذه القراءة والتفسيرات المتشددة للآية الكريمة تُهمل أسباب النزول والسياق التاريخي والزمني للآيات التي تتحدث عن الولاء بمعنى النصرة على الدين أو التواطؤ مع الأعداء ضد الإسلام والمسلمين، وليس كل علاقة إنسانية أو تعامل سلمي أو شراكة في المصالح المشتركة.

وليس أدل على الفهم الوسطي لهذه الآيات من واقع حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله التي تضمنت العديد من المعاملات مع اليهود والمشركين، بل وقبول النبي لهداياهم، وتعامله معهم في ميادين البيع والشراء، ما يدل على أنّ الآية في إطارٍ تاريخي محدد، لا يُفهم منه العداء المطلق والقطيعة لكل من خالفنا في العقيدة.

آية الضرب والعنف الأسري

من الشبهات التي يثيرها البعض -سواء من المتشددين أو من معارضي الإسلام- تفسيرهم المتشدِّد لقوله تعالى في سورة النساء: "وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ"، فقد يُفسِّر بعضهم "فاضربوهن" بأنّه إذن مُطلق بممارسة العنف ضدّ المرأة، دون مراعاة الضوابط القُصوى التي وضعها الشرع وحثّت عليها السنة النبوية في ضرورة المعاملة بالمعروف والرفق.

كما أنّ جمهور المفسّرين وشرح السنة النبوية يوضِّح أنّ الضرب المذكور هو آخر وسيلة لإصلاح النشوز في حالاتٍ ضيقة جدًّا، بعد استنفاد كل سبل الإصلاح الأخرى، على أن يكون الضرب "غير مبرح"، أي غير موجع، فلا يترك وجعًا، ويكون بمنديل ملفوف أو سواك -حسبما أوضحت السنة النبوية- ويكون الضرب للإصلاح وليس الانتقام والإيذاء. وذهب بعض أهل التفسير إلى أن المقصود بالإيلام من هذا النوع من الضرب غير الموجع هو الإيلام النفسي الذي يؤدي للإصلاح، وليس الإيلام البدني الذي لا يكون وسيلة إصلاح للمرأة أبدًا، معللين ذلك بأن الله الذي خلق المرأة ويعلم ما يصلحها وما يفسدها، علم بعلمه المسبق أن الألم النفسي أدعى لإصلاحها من الألم البدني، بل إن العنف البدني قد يقودها إلى العند والإصرار على ما هي عليه من نشوز، أمّا اتخاذ الآية مبرِّرًا للعنف الأسري وقهر المرأة، فهو مناقض لمقصد الشريعة في بناء الأسرة على السكن والمودّة والرحمة.

ميراث المرأة في القرآن

من أكثر القضايا التي يُسِيء المتشددون استغلالها قولهم إن الإسلام "دائمًا" يعطي المرأة نصف حظ الرجل في الميراث، مستدلين بظاهر الآيات التي أشارت إلى حالات ترث فيها الأنثى نصف ما يرثه الذكر، كما في قوله تعالى من سورة النساء: "يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ"، غير أنّهم يَغفلون -أو يتغافلون- عن سياق أرحب لأحكام المواريث، فالفقهاء استنبطوا من مجمل الآيات والأحاديث أنّ هناك حالات متعدّدة قد ترث فيها المرأة مثل الرجل أو أكثر منه أو تحجبه عن الميراث بحسب ترتيب العصبة والفرض، وأن المرأة قد ترث أكثر من الرجل في ١٤ حالة تقريبًا.

إذن التشدّد يكمن في حصر المسألة بآيةٍ جزئية دون جمعٍ لكلّ الحالات الأخرى، واستغلال ذلك في إظهار المرأة وكأنّ الشرع يظلمها أو يقلل من شأنها، بينما توزيع الميراث في الإسلام يقوم على منظومة تكاملية تضمن العدل بين أطراف الأسرة جميعًا في ضوء الالتزامات المالية المختلفة لكلٍّ من الرجل والمرأة.

آيات المعاملات المالية

قد يقع بعض المتشددين في الإفراط في تجريم كل معاملة مالية حديثة بحجّة أن الأصل هو التحريم، متناسين أنّ الأصل في المعاملات الإباحة ما لم يرد دليل معتبر على المنع، وفقًا لقاعدة فقهية راسخة، وينطلقون من نصوص عامة حول الربا أو الغبن، لتجريم كل ما عداه، وهذا افتئاتٌ على روح الشريعة ومقصودها في تحقيق العدل والمرونة.

أمّا المفسّر الوسطي، فينظر إلى مقاصد الشريعة ومبدأ التيسير ورفع الحرج، فيفرّق بين المعاملات الربوية المحرّمة قطعًا، وبين المعاملات التي قد تخضع للتطور الإنساني ولكنها لا تتعارض مع مبادئ العدل والتكافل.

الحدود وتطبيق الشريعة

يشكّل موضوع الحدود والعقوبات أحد أهم مجالات الخلاف بين النهج الوسطي والمتشدد، حيث قد يرى المتشدّدون وجوب تطبيق الحدود فورًا وبلا مراعاةٍ لظروف المجتمع وأسباب الجريمة، ويتمسّك بعضهم بتفسيرات متشدّدة بشأن تطبيق الحدود (كالقصاص وحدّ السرقة وغيرها)، مع تجاهل جانب الإصلاح الذي قامت عليه الشريعة، ويقصرون إقامة الشريعة على تطبيق الحدود فحسب.

في حين ينظر أصحاب المنهج الوسطي إلى أن تطبيق الحدود يتطلّب توافر شروط صارمة ودرء الشبهات قدر الإمكان وحسب الاستطاعة، ويهتمون بالنواحي الوقائية والتربوية ويأخذون في الحسبان أن الإسلام لا يهدف إلى التنكيل بالناس، بل يرمي إلى تحقيق الأمن ونشر العدل ومنع الفساد.

والسنة النبوية والسيرة التي تحث على التثبّت وإعطاء الفرصة للتوبة والندم، بل إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحدود في أضيق الحالات المتيقنة، وكذلك الخليفة عمر بن الخطابة لم يقم حد السرقة في عام المجاعة بسبب عدم توافر الشروط وتطبيقها على أرض الواقع، فالإفراط في تنزيل العقوبات بلا نظر للظروف الواقعية والأدلة والشروط يضرّ بصورة الإسلام العادلة ويرسّخ في الأذهان الوحشيّة بدلًا من معنى العدل الإلهي والرأفة الإصلاحية.

التفسير ومستجدات العصر

الشريعة الإسلامية تتميّز بالمرونة والقدرة على استيعاب المستجدات، وفيما يتعلق بتفسير القرآن، تظهر هذه المرونة في قدرة النصّ على التعامل مع تطورات الحياة عبر أجيال مختلفة، فالنهج الوسطي يستند إلى قواعد الاجتهاد وأصول التفسير التي تسمح باستخراج أحكام تناسب روح العصر مع الحفاظ على ثوابت الدين، أما التشدد والجمود فيقف في سياق زمني تجاوزه الواقع، فيرفض كل جديد، ويستمسك بتطبيقات محدودة للنص دون النظر إلى تغيّر الظرف الزماني والمكاني.

كما أن الفقه الإسلامي يستند إلى مجموعة من المقاصد الكلية مثل حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل، وعند التوسع في الاستنباط أو تطبيق النصوص القرآنية على واقع معاصر، لا بد من مراعاة هذه المقاصد بحيث يظل الاجتهاد محافظًا على روح الشريعة، أما من يتبنّى النزعة المتشددة، فقد يتجاهل المقاصد أو يتعامل معها بانتقائية، مما يؤدي إلى نتائج ضيقة لا تتواءم مع متطلبات الواقع وحاجات الأمة.