في ظلمة الليل البارد، وبين أزقة إمبابة بمحافظة الجيزة، التي تضج بالحكايات الحزينة، كانت "سماح" تحمل صغيرتها بين ذراعيها، تبحث عن زاوية آمنة تحتمي بها من قسوة الحياة، لم يكن لديها بيت، لم يكن لديها حتى شهادة ميلاد لرضيعتها الصغيرة، فقط كان لديها قلب أم يشتعل خوفًا وجسد واهن لم يعرف الراحة منذ شهور.
كانت الطرقات مزدحمة بالمارة، لكنها شعرت بأنها وحدها في عالم قاسٍ، عالم لفظها دون رحمة كما لفظها زوجها ذات ليلة باردة، عندما قرر فجأة أن ينكر ابنتهما، أن يمحوها من وجوده، تمامًا كما لو أنها لم تكن يومًا جزءًا منه، "مش بنتي.. مش هسجلها باسمي.. ومالكِيش مكان عندي!"، كلماته ما زالت ترن في أذنيها كطعنة بطيئة في القلب، كانت تحمل رضيعتها بقوة كأنها تحاول أن تحميها من الألم، لكنها لم تكن قادرة على حماية نفسها، لم يكن لديها مكان تذهب إليه، ولا مال يساعدها على العيش.
سارت في الشوارع بلا وجهة، لا تعرف إلى أين تذهب، حتى توقفت أمام أحد المحلات التجارية، حيث جلست فتاتان صغيرتان على الرصيف، تراقبانها بعيون واسعة، وكأنهما تعرفان ألمها جيدًا.
طفلتان تبحثان عن أم
إنتِ رايحة فين؟.. التفتت سماح إلى الفتاة الكبرى، "علا"، التي لم تكن تتجاوز السابعة عشرة من عمرها، بينما كانت شقيقتها الصغرى "مريم" البالغة من العمر ست سنوات تتشبث بها، لم تكن الفتاتان متشردتين، لكنهما لم تكونا تنعمان بدفء عائلة أيضًا، بصوت خافت، قالت علا: "ماما مسجونة، وإحنا عايشين لوحدنا".
شعرت سماح بقشعريرة تسري في جسدها، وكأن مصيرها تشابك مع مصيرهما في دوامة القهر نفسها، عرضت الطفلة الكبري عليها أن تأتي معهما إلى منزلهما الصغير، فوافقت دون تفكير، لم يكن لديها خيار آخر.
في ذلك المنزل البسيط، بدأت سماح تشعر ببعض الأمان، رغم كل شيء، لم يكن المكان واسعًا، لكنه كان على الأقل يمنحها سقفًا يحميها من برد الشوارع، بدأت تشعر أن الحياة قد تمنحها فرصة أخرى، ولو صغيرة، كي تستعيد أنفاسها المرهقة، لكن القدر لم يكن يخطط لتركها بسلام.
لعبة بريئة ونهاية مأساوية
كان اليوم يبدو عاديًا، تمامًا كالأيام القليلة التي قضتها في المنزل مع الفتاتين، لكن في لحظة خاطفة، تحول كل شيء إلى كابوس.
كانت "مريم" الطفلة الصغيرة تضحك وهي تحمل الرضيعة بين ذراعيها، تداعبها كدمية صغيرة، تهمس لها بكلمات غير مفهومة، كانت الطفلة سعيدة، لكنها لم تكن تدرك أن يديها الصغيرتين لا تستطيعان حمل جسد الرضيعة الضعيف بثبات، فجأة، انزلقت الرضيعة من بين ذراعيها، وسقطت أرضًا، ارتطم رأس الصغيرة بالأرض بقوة، وصدر صوت مخيف صمتت بعده كل الضحكات.
تجمد الجميع في أماكنهم، ثم صرخت الأم بأعلى صوتها، وارتمت على الأرض، تحاول إيقاظ رضيعتها، لكن عيني الصغيرة كانتا مفتوحتين بلا حياة، ووجهها الصغير كان شاحبًا.
حملتها الأم بين ذراعيها وركضت بها إلى الشارع، لا تفكر في شيء سوى أن تصل إلى المستشفى، أن ينقذها أحد، لكنها لم تكن تعلم أن الوقت قد فات، في المستشفى علمت بوفاة طفلتها.
في لحظة ذهول وقفت في مكانها، لا تصدق ما تسمعه، كيف يمكن أن تنتهي حياة ابنتها بهذه السرعة؟ كيف يمكن أن يكون هذا هو مصيرها بعد كل ما مرت به؟ لم تكن لديها حتى شهادة ميلاد لها، لم يكن هناك أي دليل على أنها كانت أمًا لهذه الطفلة.
التحقيق والاتهامات
لم تمر ساعات حتى وقفت "سماح" أمام ضباط مباحث قسم شرطة إمبابة بمديرية أمن الجيزة، عيناها غارقتان في الدموع، وجسدها يرتجف، "مريم مكانتش تقصد.. كانت بتلعب بيها بس.. مش ذنبها، هي لسه طفلة!"
تم اتخاذ كل الإجراءات القانونية اللازمة حيال الواقعة وتولت النيابة العامة مباشرة التحقيقات والتي أمرت بانتداب طبيب شرعي لتشريح جثة الطفلة وإعداد تقرير وافٍ عن كيفية وأسباب الوفاة وصرحت بالدفن عقب بيان الصفة التشريحية لها وتسليم الجثمان لذويه لاستكمال إجراءات الدفن، وطلبت النيابة العامة بشمال الجيزة تحريات المباحث التكميلية حول الواقعة وجارٍ استكمال التحقيقات.