كما كانت شجرة الصنوبر، التي تغرس جذورها في أعماق الأرض وتظل صامدة لسنوات طويلة، كان الناقد والأديب الراحل مصطفى بيومي.. ففي في كل سطر من كلماته، نبض حي لم يتوقف، وفي كل كتاب من كتبه، يظل يشعل الأمل والأفق.
فقد كانت كتاباته عميقة، تلامس قلوب القراء، وستبقى حية في ذاكرتهم بفضل إبداعاته التي ستظل خالدة.
وكأنك تجد في كلماته صدى من أبيات الشعر التي تدون في الزمان والمكان: "عاش قلمك بيننا، وسرى في الأرض ذكره، أنت في الآداب نبراس، وفي الفكر طيف عبره".
إن رحيل مصطفى بيومي يمثل خسارة فادحة للأدب العربي والفكر النقدي المعاصر، فقد كان بيومي من أبرز الأسماء الثقافية التي تركت بصمة واضحة في مجال النقد الأدبي، وأحد المنارات التي تضيء الساحة الأدبية بأفكار جديدة ورؤى مبتكرة حول الأدب والكتابة.
بدأت مسيرته الأدبية مشبعة بالطموح والإبداع، وقدم في أعماله رؤية نقدية عميقة للأدب العربي المعاصر، حيث سعى دوما إلى تحفيز التفكير النقدي لدى قرائه، ولم تقتصر أعماله على المقالات النقدية فحسب، بل اتسعت لتشمل دراسات معمقة في الأدب العربي والعالمي.
وقد تميزت مقارباته النقدية بالتحليل الدقيق والجاد، حيث كان يربط بين الأدب والموروث الثقافي العربي في إطار نقدي معاصر، مما جعل أعماله محط اهتمام كبير من الأكاديميين والمهتمين بالأدب.
ورغم تفوقه كناقد أدبي، لم يكن مصطفى بيومي بعيدًا عن الكتابة الأدبية، حيث امتاز بقدرته الفائقة على التواصل مع جمهوره، إذ كانت لغته سهلة ومباشرة، تلامس واقع القارئ وتفتح أمامه آفاقا جديدة لفهم الأدب، وبهذا التوازن بين التحليل العميق واللغة البسيطة، استطاع بيومي أن يصل إلى مختلف الأوساط الثقافية والجماهيرية.
إن رحيله لا يعني فقدان شخص مبدع فحسب، بل فقدان فكر نقدي كان جزءًا أساسيًا من الهوية الأدبية العربية المعاصر، وستظل أعماله خالدة في ذاكرة الأدب العربي، وستظل بصمته تضيء طريق الأجيال القادمة.
وسيظل مصطفى بيومي حاضرا في قلوبنا، وسنظل نذكره بفخر واعتزاز، نترحم عليه بكل حب واحترام: "ذكراه فينا باقية، مثل صنوبر شامخ، وفي كل قلم، هو حي، كما كانت فكرته الدامغة".
الوظيفة والموظفون في عالم نجيب محفوظ
من أبرز أعماله النقدية كانت سلسلته حول شخصيات روايات الأديب نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل، حيث اهتم بتحليل النصوص الأدبية بشكل مفصل ودقيق، ولم يكن يكتفي بالقراءة السطحية، بل كان يغوص في عمق النصوص لاستخراج معانيها الخفية وأهدافها.
كما قام بدراسة العلاقات بين الأدب والمجتمع والثقافة، ليربط بين النصوص الأدبية والتغيرات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها المنطقة العربية، لقد كان نصه النقدي كالمطر الذي يغذي الأرض بعد جفاف طويل، يروي العقول ويعزز الفهم.
ولعل من المهم أن نلقي الضوء على واحد من الأعمال القيمة التي قدمها مصطفى بيومي للمكتبة العربية وهو كتاب «الوظيفة والموظفون في عالم نجيب محفوظ» الذي صدر عن دار الهلال للنشر بالتزامن مع ذكرى ميلاد أديب نوبل في شهر ديسمبر من عام 2016، ويتناول الكتاب عالم الوظيفة والموظفين في كتابات الأديب الكبير نجيب محفوظ، حيث يرصد من خلالها المكانة التي احتلها الموظف في الحياة المصرية، والتي كانت تمثل شريحة واسعة من المجتمع، حيث قدم مصطفى بيومي تحليلًا معمقًا لتطور شخصية الموظف في أعمال محفوظ، والتغيرات التي طرأت على هذه الشخصية عبر الزمن.
ولا يمكن اعتبار هذا الكتاب مجرد تحليلًا أدبيًا واجتماعيًا مهمًا لأعمال نجيب محفوظ أو توثيق لملامح شخصية الموظف في المجتمع المصري، بل هو بمثابة دراسة بحثية حقيقية تشرح الصفات النفسية والقواعد الإدارية لمجتمع الموظفين، حيث نجح مصطفى بيومي في تقديم تحليلات دقيقة للغاية لبيئة العمل وعيوبها، وتأثيرات غياب اللوائح المنظمة على الإنتاجية ومسار الشركات والمؤسسات.
ويعتبر الكتاب إضافة مهمة للمكتبة العربية، حيث يقدم دراسة معمقة وموثقة ليس فقط لمحبي أدب نجيب محفوظ بل أيضا المهتمين بالدراسات الأدبية والاجتماعية والإدارية ولكل الراغبين في دراسة فهم أعمق للواقع الاجتماعي المصري، حيث يتناول قضايا مثل البطالة والفساد والتعليم والثقافة والسياسة وعلاقتها بالموظفين باعتبارهم الطبقة الوسطى في المجتمع المصري على مدار قرون طويلة.
ويؤكد مصطفى بيومي في مقدمته أن الموظف حظى بأهمية كبرى في التاريخ الاجتماعي المصري منذ ما قبل ثورة 1919 إلى السنوات الأخيرة من القرن العشرين، وهو ما ألقى بظلاله على كتابات نجيب محفوظ، حيث نجد أن أغلب أبطال الروايات التي قدمها الحائز على جائزة نوبل هم موظفون مثل: أحمد عاكف في «خان الخليلي»، ومحجوب عبد الدايم في «القاهرة الجديدة»، وحسين كامل في «بداية ونهاية»، وياسين وكمال ورضوان وعبد المنعم في «الثلاثية»، مرورا بأنيس زكي في «ثرثرة فوق النيل» وغيرها الكثير نهاية بعثمان بيومي في «حضرة المحترم»، وهي الرواية التي تصل إلى الذروة في تجسيدها غير المسبوق لنفسية الموظف وملامح عالم الموظفين في الواقع المصري، حيث ترتقي بالوظيفة الحكومية إلى ذروة غير معهودة تضفي عليها قداسة خاصة وتحولها إلى مثل أعلى وطقس ديني.
ويقول مصطفى بيومي، إن الوظيفة في تاريخ هي مؤسسة مقدسة كالمعبد، والموظف المصري أقدم موظف في تاريخ الحضارة، وإن أول تعاليم أخلاقية حفظها التاريخ كانت وصايا من أب موظف متقاعد إلى ابن موظف ناشئ، وفرعون نفسه لم يكن إلا موظفا معينا من قبل الآلهة في السماء ليحكم الوادي من خلال طقوس دينية وتعاليم إدارية ومالية وتنظيمية، فالوظيفة خدمة وحق للكفاءة وواجب للضمير الحي وكبرياء للذات البشرية، وعبادة لله خالق الكفاءة والضمير والكبرياء.
ويرى بيومي، أن مكانة الوظيفة في التاريخ الاجتماعي المصري تتراوح بين التربع على القمة والسقوط في هاوية القاع، وقد تراجع سحر الوظيفة مع تغير إيقاع الحياة وتبدل القيم والمفاهيم، فبعد أن كانت الوظيفة الحكومية أشبه بالفاكهة المحرمة في عالم الفقراء، وبعد أن كانت كلمة الموظف حلم كل أم لأبنائها وطموح كل فتاة في زواجها لم يعد للوظيفة من شأن يذكر وتدهورت مكانة الموظف لأسباب اقتصادية في المقام الأول.
وقسم بيومي دراسته عن الوظيفة والموظفون في عالم نجيب محفوظ، إلى عشرة فصول تبدأ بالمكانة الاجتماعية للموظف، اقتصاديات الموظفين، مرورا بالبطالة والانحراف والفساد الوظيفي، وقضية البطالة المقنعة والتمرد على الوظيفة، وعلاقة المرأة بالوظيفة، ثم ينتقل إلى دور التعليم في حياة الموظفين، وأزمة الثقافة في عالم الوظيفة، وعلاقة الموظفين بالسياسية، حتى الصراعات والمعارك بين الموظفين وفي النهاية يرصد طرق تطبيق اللوائح والعقوبات وازدواجية المعايير.
المكانة الاجتماعية للموظف
في هذا الفصل يرصد مصطفى بيومي كيف كانت الموظف يحتل مكانة اجتماعية مرموقة خلال النصف الأول من القرن العشرين في نسيج الطبقة الوسطى التي ينتمي لها نجيب محفوظ نفسه حيث كان يتفوق على غيره من التجار والحرفيين وهم الذين يتميزن عنه من الناحية المادية.
كما يشرح كيف كانت الوظيفة هي الحلم الذي تسعى كل أسرة إلى تحقيقه عبر أبنائها وكيف كان الزاج من موظف طموح يستحق الحسد، فلم تكن هذه المكانة الفريدة إلا تعبيرا عن بعض السمات الإيجابية التي تميز الموظف وترتفع به ولا توجد عند غيره من الفئات مثل: الدخل الثابت المستقر والمعاش عند التقاعد والضمان العام الذي تحققه الوظيفة.
هذه المكانة جسدها نجيب محفوظ في العديد من الروايات وقدم مصطفى بيومي شرحا وافيا لها مثل نظرة السيد أحمد أبو الجواد في «بين القصرين» الذي بذل جهدا من أجل إعداد أبنائه لتولي وظائف حكومية رغم حالته الميسورة في تجارته الرابحة، وهو ما حدث أيضا مع التاجر سليم علوان في «زقاق المدق» حيث رفض أبناؤه العمل في التجارة رغبة في الوظيفة رغم اعتمادهم على الدعم المادي الذي يقدمه لهم والدهم التاجر لكن مكانة الوظيفة لا تعتمد في الأساس على المعيار المالي فقط، فإذا كان التاجر أكثر ربحا فإن مكانة الموظف الاجتماعية أكثر تفوقا.
ومن المكانة المرتفعة للوظيفة، نجح مصطفى بيومي، في الربط بين التغيرات الاجتماعية التي شهدتها مثل قبل ثورة 1919 وبعدها وما حدث من تغيرات اجتماعية واقتصادية في العقود اللاحقة حتى ثورة 1952، وكيف انقلب الحال في السبعينات من القرن العشرين، وضرب المثال في شخصية السباك أحمد عبد المقصود الذي تقدم لخطبة ابنة الموظف عبد الستار أفندي في قصة «الحب فوق هضبة الهرم» حيث كان يحمل شهادة صناعية متوسطة وعمل في السعودية واستطاع أن يملك شقة في المعادي وسيارة نصر، وهو ما يدل على تدهور حال الوظيفة والموظفون لصالح الأعمال الحرة والحرف الأخرى على عكس ما كان متعارف عليه.
وهنا ربط مصطفى بيومي بين هبوط مكانة الموظفين بالتزامن مع انهيار أوضاعهم الاقتصادية ومن ثم بدأت تتغلغل البطالة داخل طبقة الموظفين بشكل أكبر من باقي طوائف المجتمع وطبقاته.
اقتصاديات الموظفين
في هذ الفصل يرصد كيف كانت الأحوال المعيشية للموظفين أفضل كثيرا من باقي طبقات المجتمع حتى في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية في ثلاثينات القرن الماضي وفي ذروة الكساد الكبير الذي أثر على كل الطبقات عدا طبقة الموظفين التي كانت تتمتع بمرتبات ثابتة وهو ما ذكره عباس فوزي لزميله في «المرايا» عندما قال إن «صافي راتبه ثمانية جنيهات وهي تكفي للزواج من اثنتين!».
ثم تنقلب الأحوال تدريجيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث بدأت المعاناة تتسلل إلى عالم الموظفين بسبب ارتفاع الأسعار والتضخم الذي لم ينقذهم سوى العلاوة التي اقرها حزب الوفد بعد عودته للحكم مرة أخرى.
ومع تقلبات الظروف السياسية والاجتماعية في مصر فيما بعد تدهورت أوضاع الموظفين، وهو الشخص المديون المتقشف الذي يعيش محنة ومعاناة يومية بسبب عدم كفاية الراتب لمتطلبات الحياة، فتحول الأمر إلى الاتجاه نحو زواج الرجال من النساء الموظفات لكي يساعدوهم في المعيشة الصعبة.
وسط تلك الظروف، بات حلم الهجرة من مصر يراود معظم مكونات طبقة الموظفين، وذلك هربا من ظروفا اقتصادية صعبة للغاية وفي ظل انسداد أية أفق لحلول تنقذهم من تلك الحياة البائسة، وإن كانت تلك الحالة دافعا لكثير من الموظفين لتقاضي الرشاوى وانتشرت السرقات والاختلاسات في هذا العالم الذي كان مقدسا في السابق.
وتزداد معاناة الموظفين مع بداية مرحلة الانفتاح في النصف الثاني من السبعينيات وتتحول حياة المصريين في عالم الوظيفة والمعاش إلى معاناة حقيقية، ولم يعد الموظفون من أصحاب المرتبات الثابتة قادرين على الصمود وهو ما يرصده نجيب محفوظ في «أسعد الله مساءك»، ومجموعة «صباح الورد»، وقصة «أحلام متضاربة» وغيرها.
ويرى مصطفى بيومي، أن الظروف السياسية والاقتصادية جعلت الموظف في دائرة مغلقة بين بدائل محدود هي: اليأس، والهجرة والانحراف، فلم تعد الوظيفة الحكومية حلما أو طموحا بل أصبحت الثروة هي المقياس الوحيد لتحديد القيمة ومع التحرر الاقتصادي تزداد المعاناة وتشح فرص العمل وتلوح مشكلة البطالة من جديد.
البطالة والانحراف والفساد
وفي تناغم وتراتبية ينتقل مصطفى بيومي، إلى رصد مظاهر البطالة والانحراف والفساد التي كانت نتيجة طبيعية لتراجع مكانة الموظفين، ويقدم نقدا قويا للشخصيات التي قدمها نجيب محفوظ في رواياته وقصصه.
وكالعادة اهتم مصطفى بيومي، بالجانب التاريخي ليدخل القراء في دائرة حقيقية من موضوعية السياق ليتعرف على الظروف والدوافع التي أدت لانتشار تلك الظواهر في عالم الموظفين، حيث يرصد كيف كانت الوظيفة حلما بعيد المنال قبل ثورة 1952، وكيف كانت فرص العمل محدودة بما لا يتناسب مع زحام المنتظرين، فتبدو الوساطة والشفاعة من الأمور الحتمية للوصول إلى الوظيفة المنشودة ولا بد من ثمن للحصول عليها وقد يكون الثمن ماديا في صورة رشوة، أو معنيا يتمثل في المديح والنفاق وصولا إلى مرحلة التفريط الأخلاقي عبر خدمات جنسية سوية أو شاذة على حد سواء.
ولا ينتهي دور الوساطة بالعثور على الوظيفة، ذلك أن الترقية لا تتم بمعزل عن المحسوبية وإلغاء النقل لن يتحقق إلا بشفاعة ولابد أيضا من الثمن، حيث أصبحت الوساطة هي القانون الحتمي فالرؤساء يختارون الموظفين من الأقارب فالحكومة أصبحت أسرة واحدة تتضحي بمصلحة الشعب إذا تعارضت مع مصلحتها.
ويؤكد مصطفى بيومي حقيقة لا تقبل الجدال بأن الوساطة هي القانون الأقوى من أية تغيرات سياسية فبعد ثورة يوليو، تبدلت الأحوال والسياسات لكن الوساطة ظلت باقية فخروج رجال الحقبة الملكية صاحبه دخول رجال الثورة، ظلت الوساطة متحكم رئيسي في الحصول على الوظائف سواء العليا أو الدنيا، ومع عصر الانفتاح وبداية صعود القطاع الخاص لم يتغير الحال زمع تغير أنظمة الحكم بل مع تغير العالم نفسه يتغير الرجال لكن تبقى الوساطة المحسوبية أقوى من أي قانون.
البطالة المقنعة والتمرد على الوظيفة
في هذا الفصل يقارن مصطفى بيومي بين البطالة المباشرة التي كانت العنصر الأكثر بروزا في الواقع المصري قبل ثورة 1952 وبين البطالة المقنعة حيث يتزايد الموظفون بلا عمل باعتبارها ملمحا مهيمنا على المجتمع المصري بعد الثورة، وهي ظاهرة تنتج عديدا من الإفرازات والتراكمات والتي لا تقل في أخطارها عما كان قائما قبل يوليو.
ونتيجة لذلك تحول الموظفين إلى «تنابلة ولصوص»، وأصبحوا أداة تشبيه ساخرة للتعبير عن التكاسل واللامبالاة والبطء في الإنجاز، وهو ما يجسده حوار سعيد مهران والمعلم طرازان في رواية «اللص والكلاب»، حيث كانت الوظيفة في المرحلة الناصرية هي وسيلة لنهب القطاع العام الخاضع لإشراف الدولة حيث غاب الشعور بالملكية العامة، وكثرة الاختلاسات والسرقات، حيث تحول القطاع العام إلى نموذج يضرب به المثل للنهب المباح والسرقة المبررة، وهو ما رصده نجيب محفوظ في شخصية أنيس زكي برواية «ثرثرة فوق النيل»، فالقطاع العام هو «مال بلا صاحب» وموظفون ساخطون يجدون في الخطوات المشروعة للصعود والترقي سرابا ولا بد من السرقة والنهب قدر الإمكان.
ويقدم مصطفى بيومي، تشريحًا دقيقًا لسلبيات القوى العاملة وهي المنظومة التي ظهرت بعد ثورة يوليو، حيث كانت سببا في ظاهرة البطالة المقنعة، فهي الجهة المسؤولة عن تعيين وتوزيع خريجي الجامعات والمدارس المتوسطة للعمل في شتى الأماكن المتاحة، لأن الهدف الأهم هو «التوظيف» دون نظر إلى طبيعة العمل الذي يقومون به ودون انشغال بمدى الاحتياج إليهم في سياق من العشوائية حيث يعمل معظم الخريجين في مجالات بعيدة عن تخصصاتهم ومؤهلاتهم، مثل علي عبد الستار في «الحب فوق هضبة الهرم» خريج الحقوق الذي تم تعيينه في العلاقات العامة فليس هناك علاقة بين دراسة القانون والعمل في هذا المجال، والأمثلة كثيرة.
ثم ينتقل إلى عصر الانفتاح حيث كان الموظفين ضحايا هذا التحول الاقتصادي والسياسي، حيث لم تعد الشهادات هي المؤهلات الحقيقية للتوظيف في القطاع الخاص، بل كانت الإمكانات العملية.
وفي تلك المرحلة بدأت عصر التمرد على الوظيفة الحكومية وبدأت الأحلام تتجه إلى العمل الحر، والهجرة إلى البلدان العربية حيث الرواتب المجزية والعمل الجاد والترقي، وبات الطموح هو الحصول على وظيفة مشبعة وليس مجرد مرتب ثابت.
المرأة والوظيفة
في هذا الفصل يرصد مصطفى بيومي التحولات الفكرية لنظرة المجتمع في عمل المرأة ومراحل تطورها، من الرفض الصارم والتجريم والتحريم إلى الترحيب الحار والإقرار بالأهمية والضرورة، ففي السابق كانت النساء تتجنب الالتحاق بوظيفة حكومية للابتعاد عن الاحتكاك المباشر بعالم الرجال باعتبار أن ذلك سيكون له مردود سيء على سمعتهن.
كما يلقى الضوء على النظرة السلبية للمجتمع ما قبل ثورة 1919 للمرأة العاملة حيث يتم وصمها بأفظع الأوصاف ويتم الطعن في أخلاقها، لأنها تخالط الرجال، فالانحراف وسوء السلوك هي النظرة الرئيسية للمرأة العاملة والاستثناء النادر هو الاستقامة.
كما لا ينسى ذكر الدوافع التي تجبر المرأة على العمل رغم تلك النظرة بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة، والبحث عن تأمين أسرتها لمواجهة متطلبات الحياة ورغم ذلك المجتمع قاسي، ثم تتحول النظرات تدريجيا مع التحولات الاجتماعية وزيادة نسب تعليم المرأة، وأصبحت تزاحم الرجال على الوظائف، وتنتصر على المجتمع ولم يعد عمل المرأة مثيرا للدهشة بل أصبحت تمثل الأغلبية في إدارات المصالح الحكومية.
الموظفون والتعليم
نجد هنا أن عالم الوظيفة متباين حيث لا ينتمي كل الموظفين إلى حملة المؤهلات العليا بل يضم أيضا مؤهلات فوق متوسطة ومتوسطة أيضا بعضهم يقف عن مستوى محدود من التعليم.
ويعرض مصطفى بيومي، كيف مثل المستوى التعليمي فارقا بين شخصيات نجيب محفوظ، حيث يختلف أسلوب التفكير، وأيضا الطموحات المستقبلية فالفارق كبير بين البكالوريوس والبكالوريا، والوظيفة المنتظر لكل منهما مختلفة تماما على كافة الأصعدة والمستويات.
كما يشير إلى حرص الموظفين على استكمال تعليمهم أثناء العمل رغبة في الترقي الوظيفي، والحصول على رواتب أعلى مثل حسين ضاوي في قصة «كلمة في الليل» وأحمد عاكف في «خان الخليلي» وغيرهم ممن كانوا أبطالا في روايات وقصص نجيب محفوظ.
الموظفون والثقافة
يرى مصطفى بيومي، أن العلاقة بين الموظفين والثقافة في عالم نجيب محفوظ تتسم بالكثير من العداء والتوتر فالموظف التقليدي الناجح المتحقق لا يحتاج إلى ثقافة خارج نطاق الإلمام باللوائح والقوانين التي تنظم العمل، والأغلب الأعم من الموظفين مشغولون بهمومهم المعيشية ومتقوقعون على ذواتهم ولا يشعرون بالارتياح لمزاملة موظف ذي اهتمام بالثقافة، فالاستثناء النادر أن تكون موظفا ومثقفا وهؤلاء الاستثنائيون يكابدون ويعانون وتسيطر عليهم الغربة والعجز عن التوافق والاندماج والتواصل.
ومن هنا يجد مصطفى بيومي، أن نظرة المجتمع للثقافة الرفيعة، بأنها غير مفيدة للحياة والوظيفة معا، خاصة أن المجتمع لا يرى في الثقافة بشكل عام وثقافة الموظف على وجه التحديد ما يستحق الاهتمام والإشادة والتقدير.
كما أن الاستخدام الوحيد المفيد للثقافة في عالم الموظفين، في شخوص نجيب محفوظ، كانت في استخدامها لخدمة المديرين، وذلك يجسده عثمان بيومي في «حضرة المحترم» وهو الموظف الوحيد الذي يتسلح بما يمكن تسميته «ثقافة الموظفين» فالثقافة عنده ليست هدفا أو وسيلة لاكتساب الوعي والمعرفة بقدر ما هي أداة لخدمة طموحه الوظيفي، فهو يكتب الخطابات والمحاضرات لمديره ويترجم كتابا عن الخديو إسماعيل ويضع اسم مديره عليها ويحصل على نيشان النيل دون أي عناء.
الموظفون والسياسة
وهنا يربط مصطفى بيومي العمل السياسي بعالم الموظفين تحديدا مع إرهاصات ثورة 1919، وبداية صعود الحركة الوطنية والعمل السياسي، فلا متسع للخوف الموروث في ظل مناخ حماسي عاطفي يجعل من المشاركة الإيجابية واجبا يتسابق إليه الجميع ولا يفكر الأغلب الأعم فيما قد يترتب على الاندفاع من نتائج وخيمة.
ثم يرصد مصطفى بيومي، تراجع الفورة الثورية حيث تنشغل الأغلبية الكاسحة من الموظفين بمصالحها الذاتية بعيدا عن التمرد والمشاركة السياسية خوفا من العواقب والقوانين الصارمة، ثم يتحول العمل السياسي بعد ثورة 1952 لما يشبه الوظيفة في ظل تنظيمات موحدة تخدم توجهات واحدة فقط، فالوظيفة الحكومية حلم لا يمكن أن يقامر أحد بمصدر رزقه الذي قد لا يكفيه ويغامر بأنشطة سياسية خطيرة تطيح بالاستقرار والأمان.
ووفقا لمصطفى بيومي، فكبار الموظفين وصغارهم عرضة للاضطهاد والأذى دون تمييز إذا شاركوا في العمل السياسي ولو بقدر ضئيل، وهنا لا يقف الاضطهاد عند حد المضايقة وسوء المعاملة بل إنه يتجاوز ذلك إلى التشريد والفصل من الوظيفة والحبس والدخول في معاناة مستمرة مع الحياة وتكاليفها، فالتنكيل غير المحدود يمثل أداة لردع وترويع الآخرين، وأيضا القمع لا يعرف الرحمة والاعتدال ولا يحكمه منطق أو إنصاف، وهو ما أجبر الموظفين للعزوف عن المشاركة السياسية.
كما يؤكد مصطفى بيومي، أن العمل السياسي يجلب أيضا النعيم أيضا وهو ما نراه في حملات تطهير يقودها كل نظام على النظام الذي يسبقه وهو ما حدث مع عيسى الدباغ في «السمان والخريف» حيث تسبب انتمائه إلى حزب الوفد في صعود وظيفي إلى الدرجة الثانية وهو على مشارف الثلاثين من عمره، فيما كان ابن عمه حسن غير الحزبي الذي يماثله في العمر والمؤهل الجامعي في الدرجة الخامسة، فالانتماء إلى حزب الوفد ساعده في الترقي السريع، ثم يتغير الحال بعد ثورة يوليو 1952 ويتم محاسبة عيسى الدباغ الموظف الوفدي والانتقام منه.. وعلى النقيض نرى شخصية سرحان البحيري في «ميرامار» يبدأ رحلة صعوده عبر الانتقال بين تنظيمات الثورة جميعا من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي ويتورط في الفساد والاختلاسات تحت شعارات سياسية في مشهد متكرر لموظف أخر استفاد من العمل السياسي ولكن في زمن جديد ونظام جديد.
صراعات ومعارك
يرى مصطفى بيومي أنه في عالم نجيب محفوظ، لا تنشأ صداقة حقيقية بين الموظفين فكل من محجوب عبد الدايم في «القاهرة الجديدة» وأحمد عاكف في «خان الخليلي» وياسين عبد الجواد وعبد المنعم شوكت في «الثلاثية» وعيسى الدباغ في «السمان والخريف» وغيرهم.. كلهم من الموظفين وليس لهم أصدقاء من زملاء العمل الوظيفي.
ويؤكد مصطفى بيومي أن نجيب محفوظ كان لديه رغبة في إبراز أنه بين الموظفين لا توجد صداقة بل زمالة إجبارية.. أو صداقة مكاتب وهي صداقة جبرية تفرضها عليهم الظروف فهي تبدأ في الصباح بالتحية والمداعبة وقد تنقلب في الظهيرة إلى وقيعة دنيئة تختتم بإنذار أو عقاب، فالعلاقة بين الموظفين عند نجيب محفوظ إما تكون بين أنداد تسيطر عليها المنافسة أو بين رئيس ومرؤوس حيث القسوة ولغة الأوامر والتعالي والصرامة من ناحية الرئيس والخوف والرياء والنفاق من ناحية المرؤوس.
ووفقا لمصطفى بيومي، فإن الصداقة هي الاستثناء النادر بين موظفي نجيب محفوظ والتناحر بين الأنداد والمتقاربين في السلم الوظيفي هو القانون السائد، والقسوة والنفاق يمثلان المفردتين الأكثر دقة في التعبير عن العلاقات المشوهة غير السوية التي تسيطر على عالم الموظفين، فالرئيس يمارس سلطاته بكل قسوة، والموظف يبحث عن طريقة للمداهنة والنفاق للنجاة من التعسف غير المنطقي، ويستمر النفاق للرئيس ما بقى في وظيفته ثم تأتي مرحلة الشماتة ونبش المستور ونشر الفضائح.
ومن هنا يتوصل مصطفى بيومي، إلا أن فكرة الصداقة ليست مطروحة لدى شخصيات نجيب محفوظ، فغاية ما يمكن للموظف أن يمارسه مع زملاء العمل هو الحرص على أداء الواجبات الشكلية في مناسبات معينة وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالموت أو التقاعد لبلوغ سن المعاش.
لوائح وعقوبات
يلقي الضوء مصطفى بيومي، على أن عالم الموظفين محكوم عليه بمجموعة من اللوائح والنظم الإدارية التي تبدأ قبل التعيين وتستمر إلى ما بعد المعاش، وأنه بالرغم من أن أي قانون هو إرساء قواعد النظام والعدل لكن التطبيق العملي في ساحة الوظيفة حافل بمزيج من الظلم والمحاباة، فضلا عن أن الإطار العام يخضع للروتين العقيم والإجراءات الطويلة المتعنتة والمعقدة.
ويشير مصطفى بيومي، إلى أن عالم نجيب محفوظ حافل بأمثلة لتلك اللوائح منها الإجازات الاعتيادية والمرضية التي كانت تخضع لآليات صارمة مثلما يتجسد في «خان الخليلي» عندما يطول المرض برشدي عاكف وتنتهي إجازته القانونية ويرفض الطبيب منحه إجازة إضافية رغم مرضه الشديد فيتم فصله من عمله بسبب عدم قانونية منحه إجازة مرضية لاستكمال شفائه، فالطبيب هنا ليس من «ملائكة الرحمة» بل موظف ينفذ لوائح وقوانين لا تراعي المرض.
اللوائح لا تتحكم فقط في الإجازات بل في الترقيات، حيث ان ترقية من لا يستحقون بفضل الوساطة والمحسوبية تعني بالضرورة أن يتعرض الكثيرون للظلم والقهر فهم من العاديين الذين لا ظهر لهم ولا قدرة على الاستعانة بشفيع، وهنا يحلل مصطفى بيومي، الحوار بين محجوب عبد الدايم وإحسان شحاتة في «القاهرة الجديدة» بعد تعيين قاسم بك فهمي وزيرا وهو عشيق زوجته وكيف كان يفكر في أوجه الاستفادة السريعة من هذا المنصب الجديد وكيف استطاع أن ينتقل إلى الدرجة الرابعة بعد تعيينه مديرا لمكتب الوزير! في المقابل يحفل عامل نجيب محفوظ بقائمة طيلة من الموظفين المنسيين منهم أحمد عاكف في «خان الخليلي» فهو في الدرجة الثامنة على الرغم من أعوامه الأربعين، وأيضا فريد محمد في «بداية ونهاية» فهو موظف صغير تافه الشأن ولم يرق إلى الدرجة السادسة إلا عند بلوغه سن الخمسين.
وفقا لمصطفى بيومي، فإن عالم نجيب محفوظ يضم جيش من المظلومين المنسيين وحفنة من الصاعدين بسرعة لا مبرر لها إلا هيمنة الفساد، وحلم الإنصاف الذي يراوده الموظفون البائن بمثابة البديل لواقع «النسيان» الذي يكتوون بنيرانه وهو الواقع الذي عاشه أحمد عاكف في «خان الخليلي» الذي ظل 20 عاما دون ترقية واحدة.
الأمر لا يقتصر على الترقيات بل العقوبات أيضا فاللوائح ترحم الكبار رغم سرقاتهم وفسادهم وتعاقب المستضعفين على أصغر الأمور.. فإذا سرق الكبير يكرم وإذا تأخر الصغير عن العمل يقام عليه الحد ويطالب الجميع بالقصاص منه.