الثلاثاء 11 فبراير 2025
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

عبد الرحيم على يكتب: مصطفى بيومي وشغف الذاكرة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ويمضى الأحبة.. تبقى تفتش فى التفاصيل عن زهرتين؛ تضعهما فوق قبر، ثم تقول سلامًا.. يخاصمك الآن قلبى ونصف وعد بأن نلتقى حيث كنا نزرع الطرقات فى عتمة الليل وحدنا.. نجالس الحلم، ونقرأ كل الوجوه الغائبة.. كل التفاصيل ما بيننا..

لكنك وحدك، الآن، قررت أن تفك طلاسمها واحدًا تلو الآخر.. سلام عليك إذن فى العالمين..

هذه مدينة المنيا الجميلة وتلك دار «شعاع».. يجلس الرفيق «لطفي» خلفَ منضدةٍ خشبيةٍ عتيقة ويمسك النسخة الأولى من ديوانى الأول والأخير «العواصف».. كان ذلك فى منتصف عام ١٩٨٧.. لم تكن تلك بالطبع هى المرة الأولى التى أراه فيها؛ كنا قد تعرفنا على بعضنا البعض منذ عامين تقريبًا فى بدايات عام ١٩٨٥ فى قصر ثقافة المنيا.. قرأت مقدمة الديوان وشكرته ورد على بجملته المعهودة: لماذا تشكرني؟ أنت تستحق ما كتبته عنك، فلم أجاملك.

واتفقنا منذ ما يقرب من أربعين عامًا، ألا يجاملُ أحدَنا الآخر ولكن نظل أوفياء لما نكتب ونعتقد.. 

لم يكن مصطفى صديقى بالمعنى التقليدى للصداقة.. إنما كان، ولم يزل، واحدًا من عائلتي.. أخى وابن أيامي.

كنا مجموعة من الأصدقاء لا تتعدى أصابع اليدين ندينُ للأدب العربى وبخاصة الشعر والرواية بالكثير فى تكوين شخصيتنا وندين للفكر الماركسى بأكثر من ذلك فى جعلنا نمتلك مفاتيح طيعة لفهم ظواهر الحياة.. وكان مصطفى أكثرنا انضباطًا وكلاسيكية، يعرف ما يفعل ويفعل ما يعرف، عندما تزوره فى منزله لا بد أن تدهشك مكتبته العامرة بكتب الفلسفة والتاريخ والأدب هنا أرسطو وأفلاطون وماركس وإنجلز ونيتشه وسارتر بجانب تشيخوف وديستيوفسكى وكازنتزاكس.. هنا نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي.. سلامة موسى وطه حسين وعلى عبد الرازق ولويس عوض.. بجانب عبد العظيم رمضان وطارق البشرى وصلاح عيسى.. هنا الجبرتى وعبد الرحمن الرافعى.. هنا حجازى وأمل وصلاح عبد الصبور وصلاح جاهين.. هنا مصر التى أحبها مصطفى بجنون..

والتى من أجلِها قررنا يومًا ما من عام ١٩٨٧ أن نشكل خلية شيوعية سرية.. كان الاجتماع الأول فى منزل مصطفى واختار هو أن يكون مسئول التثقيف واختار لنفسه الاسم الحركى «لطفي» ورشحنى هو وعادل وسليمان لكى أكون المسئول السياسى للخلية، أى المسئول الأول فيها، ربما لكى أتحمل المسئولية وحدى بحكم تهورى المعتاد عندما تقع الواقعة.

واخترت لنفسى الاسم الحركى «خالد»، تيمنًا بالزعيم خالد محيى الدين الذى سميت ابنى على اسمه فيما بعد..

كنا فى ريعان شبابنا نحلم بالحرية والاشتراكية والحب.. لكن أكثر شيء كنا مؤمنين به هو الحب وهو ما بقى بعدما تبخرت أحلام الحرية والاشتراكية..

لا أبالغ إذا قلت إن صداقتى لمصطفى بيومى كانت أحد أهم مصادر الفرح والسعادة بالنسبة لي.. تأثرتُ به كثيرًا خاصةً فى عادات القراءة واستخدام الكشكول ووضع الملخصات واستخدامها فيما بعد فى الكتابة.. كان مصطفى كاتبًا محترفًا وقارئًا محترفًا وكنت، وما زلت، أهوى الكتابة وأعشق القراءة، لا أكتب إلا عندما ترهقنى الفكرة وتلح على وتضغط، حتى تكاد تفجرنى من الداخل.. لكن مصطفى كان على العكس تمامًا يكتب كما يأكل أو يتنفس أو يمشي.. كانت مثل توأم روحه، نجيب محفوظ، يستطيع أن يحدد وقتًا من اليوم للكتابة ووقتًا للقراءة ويلتزم بهما التزاما حرفيًا.. كما كان يستطيع أيضًا أن يكتب مقالًا نقديًا فى عشر دقائق كما بستطيع أن يقول لك متى ينتهى من الرواية التى يكتبها دون أن يتأخر عن هذا الموعد ساعةً واحدة.. أذكر فى إحدى المرات وفى ساعة مزاح، قرر هو وعادل الضوى أن يكتبا شعرًا عموديًا يضارع الشعر العربى القديم فى القافيةِ والوزن والموضوعات والكلمات فكانا يكتبانه وكأنهما يلقيان النكات فى سهراتنا الليلية وفى الصباح يلقيانه على أساتذة اللغة والشعر فيبهرانهم بما كتبا وكنت أضحك فى داخلى كيف لهذين الشابين أن يخدعا كلَ هؤلاء الكبار ليثبتا أن ما يكتبه البعض لا يستحق عناء القراءة.

«من أى بحرٍ عصيِ الريحِ تطلبه.. إن كنتَ تبكى عليه فنحن نكتبه».. كانت تلك رسالتهم التى حملها حجازى شابًا إلى العقاد.. وافترقنا.. غادرت أنا إلى القاهرة وكان قد سبقنى إليها عادل وسليمان، وظل مصطفى هناك فى قلب المدينة الهادئة الجميلة يكتب ويقرأ ويقابل أصدقاءنا ويرسل تحياته بين الحين والآخر.. لكننى عندما أنشأت أول مركز للدراسات عام ١٩٩٨ اتصلت به وبعادل وسليمان فلبوا النداء جميعًا كالعادة، وكان أولهم مصطفى، وبدأنا رحلة جديدة أثمرت ثمارًا يراها العالمُ كلُه الآن وليس المصريين فقط، آثارهُا فى كل مكان فى أوروبا ولن تتوقف ما كان فى العمر بقية إن شاء الله.. 

لم تحن ساعة الرحيل بعد، يا درش، كنت دائمًا أمازحه كلما رأيته فى الشهور الأخيرة، وكان قد بلغ الإرهاق منه مبلغه، قلت له لقد حلمنا أن نرقص أنا وأنت يومًا ما على أنغام زوربا.. هل تتذكر؟ تلك الرقصة التى ما برحت أذهاننا يومًا.. لم نرقصها بعد، كنا نتذكرها بين الحين والآخر ونتساءل متى نمتلك الشجاعة كى نفعلها؟.. انتظرنى إذن يا درش لكى نفعلها معًا، مرة واحدة فقط يا صديقي، حين نلتقى بعد حين.. فإلى لقاء..