الثلاثاء 11 فبراير 2025
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

مصطفي بيومي.. الرجل الذي عاش بالكلمات ومات وحيدًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

فى لحظة صامتة، حين تتوقف الكلمات عن التدفق ويتحول الحبر إلى شاهد قبر، نفقد من كانوا يشيدون العوالم بالكلمات، ونجد أنفسنا أمام غياب ثقيل يفرض نفسه على الروح قبل الورق. اليوم نرثى الكاتب الكبير والناقد والأديب مصطفى بيومي، الرجل الذى عاش للأدب والنقد، وأعطى دون أن ينتظر مقابلًا، وترك وراءه أثرًا لا يُمحى فى قلوب تلاميذه وقرائه.

فى منشوراته، كان بيومى يكتب عن الوحدة، عن الليل الطويل الذى يتسربل بالذكريات، عن الكوابيس التى تزاحم الأحلام، عن الرجل الذى يتقدم به العمر لكنه لا يزال يحدّق فى رفوف المكتبة متسائلًا: "متى أقرأ كل هذه الكتب؟". لم يكن مجرد أديب، بل كان إنسانًا يحمل همّ العالم على كتفيه، ويمنح دفئه لمن حوله، حتى عندما كان البرد يتسلل إلى قلبه دون أن يشعر به أحد.

كان مصطفى بيومى مثالًا للإنسانية والعطاء، أستاذًا لجيل من الكتّاب الذين وجدوا فيه داعمًا حقيقيًا، ومرشدًا فى دروب الأدب الوعرة. لم يكن يومًا ممن يتصدرون المشهد الصاخب، لكنه كان حاضرًا فى القلوب والعقول، حيث تُصنع المعرفة الحقيقية بعيدًا عن الأضواء المبهرة التى لا تدوم.

تحدث كثيرًا عن الاستبداد والكهنوت وتحالفهما ضد الإنسان، لكنه لم يكن واعظًا ولا خطيبًا، بل كان مفكرًا يكتب بأسلوب يضع القارئ أمام مرآة الحقيقة. كان يرى أن التركيز على الدين دون الاستبداد السياسى خلل يعمّق الأزمة، وأن التقدم الحقيقى لا يتحقق إلا بتحرير العقول من القيود المفروضة عليها، سواء باسم الإيمان أو السلطة.

كان شتاء مصطفى بيومى شتاءً خاصًا. لم يكن مجرد طقس عابر، بل كان انتظارًا أبديًا لشيء ما، لحظة نقاء يطيح بسخافات الصيف وعكاراته. كان يرى نفسه يسير فى ليلة ممطرة، يغنى "يمامة بيضا.. ومنين أجيبها؟"، كأنما يبحث عن شيء فقده منذ زمن بعيد. وربما كانت الكتابة هى اليمامة التى كان يحاول أن يمسك بها طوال حياته.

وحيدًا عاش، ووحيدًا رحل. لكن الوحدة لم تكن نقصًا لديه، بل كانت اختيارًا واعيًا، موقفًا وجوديًا يليق بكاتب يرى الأشياء تتداعى من حوله، لكنه لا يزال متمسكًا بالحبر والورق حتى اللحظة الأخيرة. فى يومياته الأخيرة، كتب: "الحياة ماسخة المذاق، والبرابرة يغزون المدينة"، وكأنه يرثى هذا الزمن قبل أن يرثيه الزمن نفسه.

وكتب أيضا يرثى نفسه: يقول جيرانه بعد موته: "كان فقيرًا بائسًا ساذجًا، لكنه رجل طيب". ولكننا نقول: كان مصطفى بيومى أعمق من أن يُختزل فى كلمات بسيطة كهذه. كان أستاذًا، أديبًا، ناقدًا، وإنسانًا حمل فى داخله حبًا صادقًا للأدب والحياة، حتى وإن بدت الحياة أقل وفاءً له مما كان يستحق.

طوبى لمن يموتون وهم يكتبون، وقد كان مصطفى بيومى واحدًا من هؤلاء. رحل جسدًا، لكن كلماته باقية، شاهدة على رجل عاش بالكلمات، ورحل بها، تاركًا وراءه إرثًا لن يُمحى.