مساء ٢ فبراير٢٠٢٥ عرفت معنى أن فراق الأحباب هو سقام الألباب. فى هذا المساء رسم القدر طريق الفراق بكل دقة، بيننا وبين مصطفى بيومى. فراق بحجم مجرة خسارة لشخص أراه بمثابة مدينةٍ لا يَزورها الفراق. ولولا الوثوق بدوام التواصل ما كان الجزع من الفراق، فعندما رحل مصطفى بيومى انتزع قطعة من وجودنا، ذكريات أيام مضت كانت أجمل أيامنا، فترك خلفه الآلام ووجع لا ينسى.
علاقة الموت بصديقى مصطفى بيومى غريبة وعجيبة، علاقة الضيف الذى لا يرفض الترحيب به. شهوة الفقراء التى يكون فيها الموت هو المنتصر الوحيد. يرى صديقى الموت خيرا كبيرا ليس به شر؛ لكون الحياة مجرد فيض من الذكريات تصب فى بحر النسيان. أما الموت فهو الحقيقة الراسخة. أنه أقرب لرؤية الحسن: "فضح الموت الدنيا فلم يترك لذى عقل عقلًا".
لقد فعل مصطفى بيومى ما يفعله العصفور المشرف على الموت فكانت زقزقته حزينة، مقولات تمتلئ بالفضيلة. قاهرة شهوة انتصار الحياة على الموت. محلق فوق أعالى الجبال مستهزئ بجميع مآسى الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة. رافض الوهن فى تقبل سيناريو النهايات.
الكتابة فى حياة مصطفى بيومى صنعت منه إنسانًا دقيقًا. جمع بين الفكر والخيال مقدما من النصوص كل أخاذ وبراقِ. كتابة فك بها أبجدية المعرفة وتزيل التجمّدات القابعة حول أرواحنا. ينقلنا معها إلى حياة لم نكن نعلم بوجودها، فنرى كل شيء بوضوح، فلا نعود بعدها كما كنّا.
طقوس كتابته ذات أبعاد روحيّة تشبه تدفّق ألوان الشفق مع أشعّة الشمس ساعة الشروق. لقد نقل أخلاقه فى كتاباته، وكلماته، لتشعر معها أنّها جزء من روحه. ويشّع منها طاقة مُنفرِدة تحمل صدقه وتميزه عن الآخرين. الكتابة عنده فعل تضامن تاريخي. قادمة من سحب اللغة ومزنها الدفاقة؛ فيها وجد نفسه التى عرفها منذ سنين، وخبأ خلالها روحه التى لا يريد أن يعرفها أحد. كانت وطنه، مكانه الذى يعيش فيه. إنها الترياق العليل الذى سينقذه من الموت.
الكتابة عند مصطفى بيومى فيها أحلام كثيرة عجز عن تحقيقها فتولت الأوراق حملها عنه، وبه ضربات أقوى من السيف، وتأثيرها أبلغ من القتل. إنها طريقه إلى الشعور بالحرية.
لقد حمل كتبه ما حوت خلجات نفسه من أفكار وخواطر عصيّة على البوح، وعبق الخيال المتحكّم البارع كالملك يحمل صولجان. سافر فيها بين الأزمان والعصور، وتجوّل ليعرض ما يرتسم فى باله من أفكار فكانت مأوى ندوب الروح العميقة التى طيبها التعبير عنها.
دوما كنت أرى مصطفى بيومى يمتطى صهوة قلمه؛ مخرجا من رحيقه شهد الكلمات. بجواره مِمْحاة لا تهوى، ولا تبصر سوى الجمال، ولا تسمع غير شجون الأوراق؛ فتمحى خطايا عشاق الإبداع؛ وتبقى نجواهم وشجونهم؛ وتظهر ما يخفى على أصحاب البصر، ويدركه أصحاب البصيرة.
بين ثنايا قلمه تكالبت الهموم، على قوافى أفكار؛ كان يحلم أن يصوغها قلبه حلما، لكنه تكسر على نصال أمواج زمن، لم يعد يعرفه؛ ظاهره ليس كباطنه.
مصطفى بيومى بسنواته التى تجاوزت الستين فى التقويم الميلادى؛ تخطى عمره القرون فى طريق مر خلاله المتنبى وأبى العلاء المعرى؛ ورفاقه فيه تشيخوف ونجيب محفوظ، وسبقه فيه بخطوات حكمة بابلو نيرودا.
ظلل خطاه المتنبى بمزيد من الكبرياء والشجاعة، وألهب فؤاده بعشق مغامرات البحث بين أروقة الإبداع والمبدعين؛ معتزا بكل كلمة كتبت من أجل إنارة طريق الإنسانية. ألبسه رداء الفخار بكونه مبحرا فى عالم المعرفة، يستمتع بسماع الشعر، وما تضمنه من حكمة وفلسفة السنين. قد كان مثله عندما وجد فى الإحسان قيد فقيده. لذلك لم يكن غريبا عندما أثر الانزواء بعيدا عن الكتابة والنشر، فاتخذ قرارا ولم يكثر عليه التأسف، ففى الترك راحة، وبعدٌ عن حبيب جفا.
يجمع مصطفى بيومى مع أبى العلاء المعرى تعبير (تشاؤم العقل)!. ذلك التشاؤم الإيجابى المحفز للإرادة وزيادة الوعى للتغيير. إنه سلاح يشهر فى وجه الجهل والظلم والفساد. كلاهما تجاوز التشاؤم عنده المعنى الشخصي، بل تعلق وحلق فى الآفاق المحيطة به، محاولا استنباط بذور الأمل؛ بمزيد من المشروعات الإبداعية المبتكرة، وذات الدلالات والاتجاهات المختلفة. طارحا رؤى مترابطة ومنسجمة للعديد من القضايا التى طرحها الأدب من خلال الكثير من المبدعين. كلاهما يضع ضمن نهجه الشك، والقلق، والحيرة. رافضين اليقينيات الموروثة والمهيمنة. لنحصل فى النهاية على هذا التنوع فى الإبداع من الموروث الإنساني. يشاركه أيضا ما نسميه (التدين العقلاني)؛ المعتمد على المنطق، وجعل العقل إماما، عند تقييم الأزمات وتحليل الأهواء. كلاهما لا يجد تعارضا بين سلطة العقل وبين حاجات البشر الطبيعية للتدين.
لا أعرف حتى الآن ما سبب عشق المبدعين العرب الغزيرى لإنتاج أنطون تشيخوف، هذا ما عرفته عن يوسف إدريس وأسامة أنور عكاشة وصديقى مصطفى بيومي؛ الذى تجذرت فيه فضيلة البذل والعطاء كما فى تشيخوف؛ إلى جانب هذا الكم الهائل من الإنتاج الأدبى المتناول كل نواحى الحياة، ليؤكد ثراء عبقريته الإبداعية. كلاهما ليبرالي، غير مغالٍ. عاشق الحب والحرية. وسر هذا التدفق الإبداعى يكمن فى التخلى عن شهوة الاقتناء، والتفانى داخل الروح الخلاقة، والاستغراق فى الصبر والتسامح، والتناغم بين الحكمة والعفوية المتحدة مع عناصر الكون المختلفة.
دائما ما أصف مصطفى بيومى لمن لا يعرفه بأنه الكاتب الذى يعرف نجيب محفوظ، أكثر من نجيب محفوظ نفسه. وإن معظم رسائل الماجستير والدكتوراة فى مصر كان لبيومى أياد بيضاء عليها. نجيب محفوظ وعالمه هو مشروع بيومى الأكبر، عبارة عن ١٨ كتابا صدرت حتى الآن؛ ما بين دراسة عن "المقاهى فى عالم نجيب محفوظ"؛ "الرؤية الوفدية فى أدب نجيب محفوظ"، "نجيب محفوظ والإخوان المسلمون" والعمل الموسوعى "المسكوت عنه فى عالم نجيب محفوظ" المتضمن ٢٢ دراسة فى أدبه، إلى جانب سلسلة كبيرة عن الشخصيات لديه مثل كمال عبدالجواد أحد أبرز شخصيات ثلاثيثه "بين القصرين وقصر الشوق والسكرية". وتكمن حالة التجانس بين أدب نجيب محفوظ وبيومى فى الفهم العميق لشخصية صاحب نوبل وعلاقتها بالعالم المحيط به.
صديقى الإنسان مصطفى بيومى والذى كانت تجمع بيننا، بين الحين والآخر فناجين القهوة والبوح ذو الشجون. كانت صداقته تحمل معانى عدة، أجملها التضحية والاندماج مع الآخر. صداقة ليس فيها مصالح تطفو على السّطح، فتفقد توازنها وتتقاطع. جذورها الوفاء، وثمارها الاتّصال. تسكن الوجدان. إنها الحب الخالص بدون نفاق أو حسد أو غيرة. مصدر الراحة والسعادة، تبقى على العهـد حتى وإن طالت المسافات أو قصرت. تأخذك إلى الأعلى، وتورثك الخير. إن صداقته كانت الكنز والسلوى.
وأخيرًا يا صديقى الغالى الباقى فى القلوب.. أعلم أنه عندما تصف حياتك، ستردد ما قاله بابلو نيرودا فى مذكراته: "أعترف بأننى قد عشت".