ستظل بيننا "موجودًا".. وفراغ غيابك لن يملؤه غيرك سواء بعلمك أو عملك أو إنسانيتك أو وجودك الثرى بحياتنا وقلوبنا
بعض الرثاء أنانية وكل الفقد احتياج.. فنحن لا نرثى من رحل قدر رثاء حبنا لهم وحرصنا على وجودهم بجوارنا.. عندما صدمنى الخبر الصعب بغياب جسد أستاذ مصطفى عنا بكيت كثيرًا وأنا أسأل نفسى هل حقًا غاب؟ هل سأفتقده فعلًا؟ ألن يمكننى مجددًا التحدث معه لساعات متصلة أسأله واستشيره فى كل صغيرة وكبيرة فى عملى أو آخذ رأيه فى طريقة تناول ملف صحفى أو كتابى أو تليفزيونى أو حتى فى حياتى الخاصة أو العامة أو أطلب رأيه فى أسرار أو مواقف لا أحكيها لغيره وأنا على يقين أننى آمنة مهما أفصحت، وأنه يعرفنى أكثر من نفسي، وأن نصيحته لى هى الصواب، وكثيرًا كنت أمر بضيق فأذهب إليه أو أتصل حتى به أحكى وأسمع لتتبدل حالتى بمشاركته وحنان أبوته الممزوجة بحكمة ورزانة تأخذ بيدى وتطمئن نفسي.
فقدان اليوم أكبر من خسارة ثقافية وأدبية لأديب كبير وقامة ثقافية عظيمة لكنه بالفعل إحساس جديد بيتم من نوع آخر، فقد يجد البعض القسوة من أسرته الحقيقية أو قد يغيب الأهل أو يرحلون، لكن أقدارنا تهدينا وتعوضنا بمن يحبنا دون شروط، ويكون بجوارنا دون ألقاب عائلية أو التزام اجتماعي، فنصدق هذا ونتصرف على أساسه فيصبح وجود شخص واحد هو (العائلة) دون ترتيب منا أو محاسبة، طوال سنوات لا أتذكر عددها وأيام ومواقف يصعب علىَّ رصدها احتل فيها أستاذ مصطفى الصدارة عندى فكان الأب الطيب أحيانًا والصديق المخلص دائمًا والأستاذ صاحب النصيحة والنظرة الثاقبة كثيرًا، والقريب من القلب ومن الأسرة الصغيرة عندى غير أننى لم أشعر مرة بالاغتراب بين أسرته الدافئة أو حتى وجود الحدود مع أستاذ كبير جمعنى به العمل أحيانًا والمودة دائمًا.
لم أستغرب أنه اختار لحفيدته الأولى اسم ابنتى "لارا" التى سبقتها للحياة بعدة سنوات والتى اعتبرها حفيدته الأولى قبل أحفاده، واعتبرته هى جدها الطيب الذى لم يمنحها القدر رؤيته، فكان يأتيها كثيرًا بأنواع الحلوى أو الكيك المفضلة عندها، ويقول لى بحنان "اسمحى لها اليوم ببعض المخالفات طالما أنا موجود"، ورغم المرض والعزلة الطويلة وتقليل الاتصال كى لا نضيف إليك أى جهد، كان لدى اليقين أنك موجود، وأشعر بالأمان لأنك بيننا وقتما نريد رؤيتك سنجدك، ووقتما نحتاج إليك فأنت هنا، حتى لو مرضت فهى فترة ستنتهى منها بصبر جميل وإيمان راسخ كما عودتنا دومًا.
بدموع لم تنقطع وحزن كبير، أقول لك أستاذ مصطفى إنك كنت وستظل بيننا (موجود) وفراغ غيابك لن يملؤه غيرك؛ سواء بعلمك أو بعملك أو بانسانيتك أو بوجودك الثرى بحياتنا وقلوبنا.