في تاريخ الكتابة المعاصرة، تحتفظ ذاكرة الكتابة بعدد من المؤلفات التي أسهمت في خلق حراك فكري وثقافي، وتعرض أصحابها لمضايقات وهجوم من أطراف عدة، إذ كسر أصحابها النمط التقليدي في الكتابة والدراسة، وأسهموا في خلق بيئة علمية مختلفة.
في السطور التالية، نتناول مجموعة من أبرز المؤلفات التي خلقت مساحة من الجدل، وأثرت المشهد الثقافي والأكاديمي أيضا بنوع جديد من الدراسات والأفكار الجريئة، في صدارتها كتابي الدكتور طه حسين «في الشعر الجاهلي» و«مرآة الإسلام»، وكتاب محمد أحمد خلف الله «الفن القصصي في القرآن الكريم»، ورواية الأديب العالمي نجيب محفوظ «أولاد حارتنا».
فى الشعر الجاهلى.. كتاب أثار حفيظة التيار الكلاسيكى
أصدر عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين كتابه «في الشعر الجاهلي» في العام ١٩٢٦، والذي أثار بدوره حفيظة الناس خاصة أنصار التيار الكلاسيكي في دراسة الأدب، وتسبب الكتاب في موجة عنيفة من الهجوم طالت طه حسين ما ادى في بعض الأحيان في فصله من العمل، وتداخلت مع خط الأزمة أمور تتعلق برجال الدين ورجال السياسية، وواجه حملات ضخمة في التشويه والاتهام بالكفر ومعارضة النص القرآني.
عميد الأدب كان قد ذكر في كتابه: «لكنني شككت في قيمة الأدب الجاهلى، وألححت في الشك. وانتهيت إلى أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدباً جاهلياً، ليست من الجاهلية في شيء، إنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام. فهى إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهوائهم، أكثر مما تمثل حياة الجاهليين. وما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جداً، لا يمثل شيئا، ولا يدل على شيء، ولا ينبغى الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلى. فالشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس أو إلى الأعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء، ولا أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر القرآن. لذلك لا ينبغي أن يُستشهد بهذا الشعر على تفسير القرآن وتأويل الحديث. وإنما ينبغي أن يُستشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر وتأويله. فحياة العرب الجاهليين ظاهرة في شعر الفرزدق وجرير وذى الرمة والأخطل والراعى أكثر من ظهورها في هذا الشعر الذي ينسب إلى طرفة وعنترة وبشر بن أبى خازم.
وعلى الرغم من تعرض طه حسين للمساءلة وتقديمه للمحاكمة وفصله من الجامعة ومحاولة نقله لوظيفة بعيدة عن مجال التدريس؛ حتى لا يشوه أفكار الطلبة كما زعم البعض آنذاك، لم يتخوف من كل هذا واستمر في معركته، يخوضها بصبر وعزيمة لا تفتر.
وبعد سنوات طويلة من أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» أجرى الصحفي الكبير محمود عوض مقابلة مع طه حسين نشرها في كتاب «أفكار ضد الرصاص» وكان من بين أسئلة «عوض»: هل أدى هذا الإرهاب الفكري الذي تعرضت له إلى التأثير على مواقفك فيما بعد.. التأثير على أسلوب محاضراتك في الجامعة مثلا؟؟
فأجابه طه حسين: لا لم يحدث بل إنه حدث بعد ذلك أن أحمد لطفي السيد أبلغني باعتباره مديرًا للجامعة أن رئيس الوزراء محمد محمود باشا- رحمه الله- قال له: نحن الآن في بداية السنة الدراسية الجديدة فقل لطه حسين- بتاعك ده- ألا يتعرض في دروسه لسيرة القرآن من قريب أو بعيد. وقتها قلت للطفي السيد: حاضر. وفي أول درس التقيت فيه بالطلبة قلت: نبدأ هذا العام الدراسي الجديد بتفسير القرآن" وبدأت فعلا أفسر للطلبة الجزء الأول من سورة البقرة. ثم طلبت أحمد لطفي السيد وقلت له: أنا الآن أفسر القرآن للطلبة وتستطيع أن تبلغ هذا لرئيس الوزراء على لساني.
مرآة الإسلام.. دعوة لقيم الحق والخير والعدل
كتاب طه حسين الذي حمل عنوان «مرآة الإسلام» أصدره في العام ١٩٥٩، كان كتابا مثيرا للجدل أيضا، فهو عبارة عن سيرة مختصرة لتاريخ ظهور الإسلام، تناول فيه عميد الأدب السيرة النبوية بالإضافة لعصر الخلفاء الراشدين وأمر الفتنة التي أطاحت بوحدة المسلمين في أيام الإسلام الأولى، كما تناول في القسم الثاني تعاليم الدين التي تمثلت في مصدريه القرآن الكريم والحديث الشريف. وتحدث طه حسين باستفاضة عن «القرآن الكريم» بوصفه الأصل الأول في الإسلام، شارحًا وجوه الإعجاز التي تمتع بها النص الكريم ما جعله يُبهر العرب ويستحوذ على قلوبهم، ويدفعهم للوحدة والتحول نحو العدل والنظام والدولة بعدما كانوا قبائل متناحرة.
وأفاض مؤلف «مرآة الإسلام» القول في مخالفة القرآن لآداب العرب المتمثلة في الشعر والنثر، ومخالفة موضوعاته لموضوعات العرب، فبينما هم تحدثوا عن الناقة والرحلة والأطلال والحروب والأمجاد القبلية، فإنه تحدث عن التوحيد، وذم الشرك، وأنبأ عما في نفوس الناس وضمائرها، وحثهم على قيم الحق والخير والعدل والإحسان.
وأشار العميد إلى دور القرآن في المحافظة على اللسان العربي، وبراعته في النظم وأسلوبه في أداء المعنى، وتمتعه بالبلاغة والبيان بما يجعل في المستمع أثرا باقيا.
وعن نظمه وأسلوبه يقول طه حسين: للقرآن وجهًا آخر من وجوه الإعجاز لم يستطع العرب أن يحاكوه أيام النبي ولا بعده، ذلك هو نظم القرآن أي أسلوبه في أداء المعاني التي أراد الله أن تُؤدَّى إلى الناس. لم يؤدِّ إليهم هذه المعاني شعرًا كما قدمنا ولم يؤدِّها إليهم نثرًا أيضًا، وإنما أدَّاها على مذهب مقصور عليه وفي أسلوب خاصٍّ به لم يُسبق إليه ولم يُلحق فيه. ليس شعرًا لأنه لا يتقيد بأوزان الشعر وقوافيه، وليس نثرًا لأنه لا يُطلق إطلاق النثر ولا يُقَيَّدُ بهذه القيود التي عرفها الكُتَّاب في الإسلام، وإنما هو آيات مفصلة لها مزاجها الخاص في الاتصال والانفصال وفي الطول والقِصَر، وفيما يظهر من الائتلاف والاختلاف، تتلو بعض سوره فإذا أنت مضطر في تلاوتها إلى الأناة والتمهُّل؛ لأنها فُصِّلَتْ في ريث ومهل لأداء معانٍ تحتاج إلى البسط والريث، كالتشريع مثلًا ووصف ما كان يُثار بين المسلمين والمشركين من الحروب والمواقع. وتتلو بعض سوره الأخرى فإذا أنت مُضْطَرٌّ إلى شيء من السرع؛ لأنها تؤدي معاني يحتاج أداؤها إلى القوة والعنف، قد فُصِّلَتْ آياتها قِصارًا ملتئمة الفواصل تقرؤها فكأنك تنحدر من عل، وذلك حين يخوف الله عباده ويشتد في تخويفهم فيأخذهم من جميع أقطارهم ويقطع عليهم طريق الجدال والحجاج.
وربما يَقُص من أنباء الرسل فيمضي القصص في هدوء ومهل؛ لأنه يتجه إلى إثارة التفكير والاعتبار والتروية فيما جرى على الأمم من قبلُ والحذر من أن يجري عليهم مثله.
وشرح العميد الأثر الباقي في نفوس المستمعين: قائلا: ووجه آخر من وجوه إعجاز القرآن وهو هذا الأثر الباقي الذي يتركه في قلوب الناس وعقولهم وأذواقهم على تتابُع القرون واختلاف الأجيال.
فالعربي القديم من أهل الفصاحة واللسن والبراعة في تصريف القول قد سمع القرآن فراعه منه ما راعه واستجاب له هذه الاستجابة التي يعرفها التاريخ، ولكنَّ أجيالًا أخرى لا تحكم ولا تصرف القول ولا تذوق روعة البيان قد جاءت بعد أولئك القدماء من العرب فسمعت القرآن وقرأته، فإذا هو يستأثر بعقولها وقلوبها، وإذا هي لا تقرؤه أو تسمعه إلا خشعت له واستيقنت أنه كلام لا كالكلام، بل له شأن آخر يختلف أشد الاختلاف عمَّا يكتبه الناثرون وينظمه الشعراء ويقوله الخطباء.
وعن دوره في تقويم اللسان، يقول طه حسين: ليس في التراث الإنساني كله شيء يشبه القرآن في تقويم الألسنة العربية حين تلتوي باللهجات العامية المختلفة، والأجنبية حين تلتوي بلغاتها المتباينة؛ فالذين يحفظون القرآن في الصبا، ويُكثِرون قراءته ويجوِّدونها أصحُّ الناس نطقًا بالعربية وأقلهم تخليطًا فيها. ومن أجل ذلك كانت الأجيال السابقة إلى عهد قريب تأخذ الصبية حين يتعلمون الكتابة والقراءة بحِفظ القرآن كله أو بعضه وتجويد قراءته؛ يرون في ذلك محافظةً على الدين وتقويمًا لألسنة الصبية والشباب.
وكان الذين يحفظون القرآن أو شيئًا منه أجود نطقًا بالعربية حين يتكلمون، وأجدر أن يفقهوا دقائق اللغة حين يتعلمونها. وقد أُهْمِل حفظ القرآن وتمرين الصبية على قراءته وتجويده في المدارس الحديثة حينًا؛ فَالْتَوَتْ ألسنة الشباب وفسد نطقهم وضاقوا بدروس اللغة في مدارسهم، ثم أعرضوا عنها بعد الخروج من المدارس، ثم مال كثير منهم إلى العامية فآثروها على الفصحى وحاولوا أن يجعلوها لغة الكتابة فلم تستقِم لهم، ولأمرٍ ما عاد القائمون على شئون التعليم فراجعوا مناهج المدارس وبرامجها وجعلوا لقراءة القرآن وحفظه مكانًا مرموقًا.
الفن القصصي في القرآن الكريم
من مدرسة العميد طه حسين، يخرج كتاب «الفن القصصي في القرآن الكريم» لصاحبه محمد أحمد خلف الله، ليثير الضجة حوله، ويخلق القلاقل أمام مؤلفه من أصحاب الفكر التقليدي والرجعي؛ بعدما رفضت الجامعة أطروحته للدكتوراه في عام ١٩٤٧م، خاصة وأن الصحافة وصل إليها خبر أطروحته التي يقدمها للجامعة، فتطاولوا عليها ووصفوها بالوباء، وأنه من الواجب حرقها بدلا من مناقشتها، إلا أن هذا الموقف لبعض الصحف وما فعله من تأثير على الجامعة كان مخيفا للمفكرين والمثقفين ووصفوا هذه الواقعة بالردة الحضارية والانتكاسة العلمية.
كان الهجوم سببه هو منهج الباحث في تعامله مع القصص القرآني لا بوصفه حقائق تاريخية، المقصود منه التأريخ لحقب ولأشخاص بعينها، إنما هو كتاب هداية للموعظة والاعتبار، ويجب أن تؤخذ فيه القصص على هذا النحو.
وجاءت دراسة «خلف الله» وسط توجه فكري يهدف لدراسة القرآن الكريم دراسة فنية وأدبية لأنه نص بلاغي وأدبي بامتياز، وكما جرى دراسة القرآن دراسة لغوية وفقهية وكلامية فإنه من الأحرى أن تجري دراسته على نحو أدبي.
رواية «أولاد حارتنا».. إبداع وجرأة فكرية
أصدر الأديب العالمي نجيب محفوظ روايته البديعة والجريئة «أولاد حارتنا» فكادت أن تقضي على حياته، خاصة وأنه تعرض لهجوم شديد من الجماعات الدينية المتطرفة التي هيجت أنصارها لمهاجمة وإيذاء محفوظ حتى تعرض لمحاولة اغتيال نجى منها بأعجوبة.
تدور الرواية حول حارة الجبلاوي التي نشب فيها الصراع منذ نشأتها بين دعاة الإصلاح وطلاب العدالة، وبين الظلم والجبروت ممثلا في ناظر الوقف الذي يستولي على كل مال الحارة في حين يتضور أحفاد الجبلاوي جوعًا ولا يحصلون على شيء من حقوقهم في حارة جدهم الكبير الجبلاوي.
نجيب محفوظ بدوره شرح أن مشكلة رواية «أولاد حارتنا» تكمن في القراءة، فهي عندما أثارت الجدل عند صدورها لأول مرة سأله الراحل صبري الخولي عن مدى استعداده لمناقشة الرواية مع الأطراف المعترضة والتي تهاجمه، فأبدى الروائي الكبير استعداده وموافقته.
وقال "محفوظ" في حوار تليفزيوني أجراه معه الإعلامي جمال الشاعر بمناسبة حصول الأديب على جائزة نوبل في الآداب لعام ١٩٨٨، وأذاعته قناة ماسبيرو زمان: لقد ذهبت في الموعد الذي حدده لي المرحوم صبري الخولي لمناقشة الرواية لكن الأطراف الأخرى هي التي لم تأت، وقال لي الخولي «أنا هندهلك لما يجتمعوا وفات على كده ٣٠ سنة ونسيت الأمر».
وتابع «تجددت الحملة عليها بعدما حصلت على الجائزة وظهر رأي غريب يدعي أنني حصلت على الجائزة بسببها، وهذا غير صحيح، لأن تقرير الجائزة ذكر في نهايته تلك الرواية».
وأضاف «محفوظ» أن الأدب الرمزي يحتاج لطريقة في القراءة، فهناك رمز وشيء يشير إليه، وأنت عندما تقرأ الرمز يجب ألا تخلطه بالمرموز وإلا ضاع الأمر، ومثال ذلك من تراثنا كتاب «كليلة ودمنة»، فهو عالم حيوان، إنما المؤلف قصد أن يعكس به الواقع في زمنه، فجعل من السلاطين والوزراء بدائل لهم في الأسد والثعلب وغيرهما، فالثعلب قد يمثل الوزير في حكمته ودهائه، لكنه يظل محتفظا بعالمه الحيواني وإلا فقدت الحكاية واقعيتها واقناعها للقارئ، فلا يصح أن يقرأ أحدهم قصة الثعلب ويسأل "ازاي تخلي معالي الوزير ينبش في الزبالة" فاعتبار الرمز هو المرموز يهدم العمل.
وطالب «محفوظ» القراء بفصل الربط الواقع بين الرواية وبين قصص الأنبياء قائلا: أفصل الحكاية وشوفها كحارة، وبعدين اسأل نفسك: «الناس اللي أنت بتعتقد بيعادلوا سيرة الأنبياء باينين إيه؟ هتلاقيهم أبطال في سبيل الخير، ولنفرض أنها تتصدي لقصص الأنبياء ماذا فعلت هذه الشخصيات في الحارة، لقد قلبوها للخير، فلا يمكن أن يستهين الواحد بالشيء الذي يرمز إليه».
وعن أدب نجيب محفوظ قال الناقد الأدبي الراحل رجاء النقاش إن أي قراءة سريعة لأدب نجيب محفوظ تؤدى على الفور الى الشعور بأنه أدب تراجيدي أو أدب يعبر عن مأساة عنيفة كبيرة.. إن نجيب محفوظ واحد من هؤلاء الفنانين الكبار الذين تنجبهم الحياة وكأنها تريد بظهورهم أن تحافظ على وجودها فلو لم يوجد نجيب محفوظ لما أتيح للمجتمع الحديث أن يجد تسجيلا لعواطفه وأزماته وتطوراته الروحية بكل هذه الخصوبة والعمق.