تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
[email protected]
ثمة ظاهرة استوقفتني منذ سنوات وهي أن الغالبية العظمى ممن اجتذبهم النشاط الإرهابي في بلادنا كانوا من دارسي تخصصات كليات العلوم والطب والهندسة، وغني عن البيان أن الفكر الذي اجتذب هؤلاء باعتراف الجميع لم يكن فكرًا علميًا بحال.
وحدث إن دعاني صديقي الأستاذ الدكتور محمد شعلان أستاذ الطب النفسي منذ ما يقرب من ربع القرن لتدريس مقرر في “,”مناهج البحث العلمي“,” لطلاب الدراسات العليا بكلية طب الأزهر (بنين)، و لم ألبث أن تلقيت دعوة مشابهة من الصديق الأستاذ الدكتور حامد الموصلي أستاذ الهندسة لإلقاء سلسلة من المحاضرات حول نفس الموضوع لطلاب الدراسات العليا بكلية هندسة جامعة عين شمس، وأتاح لي الصديق الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوي أستاذ الطب النفسي نفس الخبرة بالنسبة لطلاب الدراسات العليا بكلية طب جامعة القاهرة في العام الدراسي، كما تفضل الصديق الأستاذ الدكتور المرحوم عادل صادق بدعوتي للمشاركة عدة مرات في اللقاءات العلمية مع طلاب الدراسات العليا بكلية الطب جامعة عين شمس. لقد آثرت أن أشير إلى أسماء هؤلاء الأساتذة الأفاضل لكي يتضح للقارئ أنهم جميعًا أساتذة استثنائيون لا يمثلون القاعدة بحال.
وأتاحت لي لقاءاتي مع هؤلاء الطلاب البحث عن إجابة للسؤال الذي كان يؤرقني: لماذا كان غالبية قادة ورموز وممارسي الإرهاب من بين دارسي تلك التخصصات؟
لقد كان أبنائي من دارسي الطب والهندسة، يعدون استثناء بحكم تأثرهم بأساتذتهم الذين أقدموا على مغامرة أظنها لم ولن تتكرر بدعوة أستاذ من كلية الآداب متخصص في علم النفس السياسي لتدريس “,”مناهج البحث العلمي“,” لطلاب متفوقين يستعدون لاستكمال دراساتهم العليا المتخصصة في كليات لا تعرف سوى العلم. ورغم استثنائية الطلاب والأساتذة على حد سواء فما زلت أتذكر نظرات التشكك والريبة بل والاستنكار والرفض الصريح أحيانًا لحديث يدور حول “,”أسس التفكير العلمي“,”، وكيف أنه يقوم على التراكمية بمعنى أننا نكمل ما انتهى إليه من سبقنا، وكيف أن هذه التراكمية تعني بالضرورة التسليم بأن ما نعرفه من “,”حقائق“,” يظل كذلك إلى أن نتجاوزه أو يتجاوزه غيرنا ليصبح في عداد القديم، وأن “,”التفسير العلمي“,” قابل للجدل دائمًا، بمعنى أنه صحته نسبية، وأن علميته إنما تتوقف على قبوله الدائم بالخضوع للتفنيد أي الاختبار للتأكد من صحته أو خطئه، وأن عجزنا عن تفسير ظاهرة ما لا يعني بالضرورة استحالة تفسيرها بشكل مطلق، كما أنه لا يعني حتمية قبولنا بأي تفسير مطروح ما لم تتوافر فيه الشروط العلمية، وعلى رأسها القابلية للتفنيد، وأن التوصل إلى الحقيقة العلمية يقتضي الحذر من مخاطر الانبهار بالشيوع أو بالقدم إلى آخر تفاصيل شروط التفكير العلمي، وعلى رأسها نسبية الحقيقة.
واتضح لي أن هؤلاء الأبناء معذورون، فهم وفقًا لنظامنا التعليمي لم يتلقوا طيلة سنوات تعليمهم من مرحلة الحضانة إلى مرحلة الدراسات العليا مقررًا دراسيًا واحدًا يتعلق بالمنطق أو الفلسفة أو تاريخ الفكر أو ما إلى ذلك من موضوعات تحمل شبهة تعليم المنهج العلمي. وكان طبيعيًا والأمر كذلك أن ترسخ لدى هؤلاء الأبناء عقيدة مؤداها أن التفكير لا يحتاج إلي تعليم، وأن تمحيص الأفكار لا يحتاج إلى تدريب، وأنه يكفي للتسليم بصواب فكرة معينة أن تبدو منطقية أو أن تصدر عن مصدر ثقة أو أن تتفق مع مشاهدات “,”واقعية“,”، أو أن تكون متكررة لزمن طويل.
وكان طبيعيًا والأمر كذلك ألا يجد هؤلاء صعوبة في تقبل فكر يقيني إطلاقي آخر. ولكن تبقى ملاحظة جديرة بالتأمل وهي أن قلة ضئيلة ممن درسوا في الأزهر قد اجتذبته تلك الأفكار اليقينية الإطلاقية. ترى هل من تفسير؟