إذا بحثت عن السمات الرئيسية للشخصيات اليابانية ستجد أن من أهم عناصرها أن يكون دقيقًا، وأن يكون مجتهدًا بالإضافة إلى كثير من الصفات الممتازة منها أن يكون لديه طبيعة متحفظة، وأن يكون مهذبًا وعمومًا يتميز المجتمع الياباني بصفات كثيرة من اهمها الانْضِباط، والدقة في العمل.
وإذا أردنا أن نعرف من هو "هاروكي موراكامي" الذى أصبح أِشهر كاتب ياباني والذى نجحت مؤلفاته نجاحًا باهرًا حيث تصدرت قوائم أفضل الكتب مبيعًا سواء على الصعيد المحلي أو العالمي وترجمت إلى أكثر من خمسين لغة فإننا يجب أن نقرا كتابه الهام "مهنتي هي الرواية".. هذا الكتاب هو بحق سباحة ضد التيار لنصل إلى منبع تفوقه!.
دعنا أولا نتحدث عن طفولته إذ انه من مواليد ١٢ يناير ١٩٤٩ وولد بمدينة "كيوتو" اليابانية وهو ابن وحيد لأبويه، وقد تأثر منذ طفولته بالثقافة الغربية تأثرًا شديدًا، إضافة إلى الأدب الروسي، فقد نشأ يقرأ سلسلة واسعة من أعمال الكُتَّاب الأوروبيين والأمريكيين، من أمثال فرانس كافكا وجوستاف فلوبير وتشارلز ديكنز وكورت فونيجت ودوستويفسكي وغيرهم.. ويميّزه هذا التأثر الغربي عن الأغلبية العظمى من بقية الكُتَّاب اليابانيين.
أيضا رغم عمر هذا الكاتب - لقد تجاوز السبعين عاما- قرر بانضباط تام والتزام أن يجلس للكتابة يوميًا، ووضع لنفسه برنامجًا، فهو يستيقظ كل يوم في الرابعة صباحًا ويكتب ويقرأ خمس أو ستّ ساعات متواصلة، ثم يخرج بعد الظهر للجرى أو السباحة أو كلاهما، وينام في التاسعة مساء كل ليلة، وهذا البرنامج يلتزم به يوميًا بلا تنويع أو تغيير.
وفى كتابه الهام "مهنتي هي الرواية"، كتب تصديرًا قال فيه:
- لا أعرف تحديدًا متى بدأتُ أكتب المقالات التي جمعتُها في هذا الكتاب، لكنِّي أتصوَّر أنَّ ذلك كان في حوالى العام ٢٠١٠.. وجديرٌ بالذكر أنَّ هذا الكتاب نُشِرَ في اليابان في العام ٢٠١٥، ما يعني وجود فجوةٍ زمنيَّةٍ قدرها سبعُ سنواتٍ بين ذلك التاريخ وظهور الترجمة الإنكليزيَّة، في العام ٢٠٢٢.. يهمُّني أن يُدرك القارئ هذه النقطة؛ فخلال تلك السنوات السبع مررنا بأحداثٍ جسيمة، من بينها جائحةُ كورونا، وحروبٌ نشبت حول العالم. وقد دفعتْنا تلك الظروف إلى إجراء بعض التغييرات الكبيرة في حياتنا، غير أنَّ ما جاء في هذه المقالات لا يعكس تلك التغييرات بالضرورة، ولا التغييرات التي مررتُ بها شخصيًّا!.. ما تحمله المقالات، إذن، هو أفكاري ومشاعري حتى وقت نشرها في العام ٢٠١٥.
ثم قال مؤكدا:
-أردتُ أن أتحدَّث عن تجربتي في كتابة الرواية، وعن معنى أن أكون روائيًّا طيلة هذه السنين.. لذلك بدأتُ أخطُّ أفكاري، شيئًا فشيئًا، بين التزاماتي الأخرى، وأرتِّبها حسب الموضوع.. فلم أكتب هذه المقالات وفقًا لطلبٍ من أحد الناشرين، وإنَّما بمبادرةٍ منِّي، فهي أشياء كتبتُها من أجل نفسي.. كتبتُ المقالات الأولى بأسلوبي المعتاد (الظاهر في هذه السطور)، لكنَّني حين أعدتُ قراءتها بدت لي جافَّةً ومُتكلِّفةً إلى حدٍّ ما، فلم أقتنع بما كتبت!.. لذلك حاولتُ أن أكتبها كما لو كنتُ أتحدَّث إلى الناس مباشرة، فأصبح من الأسهل عليَّ أن أكتب (كما لوكنت أتحدَّث) بسلاسةٍ وصدقٍ أكبر، وهذا ما دفعني إلى أن أوحِّد المقالات كلَّها في أسلوبٍ أقرب إلى كتابة كلمة "تُلقى أمام جمهور".. وتصوَّرتُ نفسي أتحدَّث في قاعةٍ صغيرةٍ إلى ثلاثين أو أربعين شخصًا تقريبًا، وأعدتُ كتابة المقالات بنبرةٍ أكثر حميميَّةً تناسب هذه الأجواء.
بقى أن تعرف أن عنوان المقال هو اقتباس من قول الشاعر البولنديُّ زبيغنيڤ هربرت وهو يقول "إذا أردتَ الوصول إلى المنبع، فلا بدَّ من أن تسبح عكس التيَّار. إذ لا يسبح في اتِّجاه التيَّار إلَّا سقط المتاع!"
أنتظرني الاسبوع القادم باذن الله، لأكمل معك القراءة فى كتاب "مهنتى هى الرواية" لهذا الكاتب الياباني المتفرد.