مسيرة الفلسطينيين الطويلة نحو العدالة الدولية تنتصر بوضع نتنياهو وجالانت تحت الاعتقال
رحلة ممتدة من السلطة الفلسطينية ومجموعة محامين فى غزة تعرضت للتهديدات حتى نجحت في النهاية
البداية كانت في 14 يناير 2009 عندما تلقت المحكمة تقريراً أولياً باسم فتاة فلسطينية بتفويض من 100 جمعية
أجهزة المخابرات الإسرائيلية حاولت تعطيل صلاحيات المحكمة الجنائية.. وتساؤلات عن المستفيد من تشويه سمعة كريم خان وتهديد المدعية العامة السابقة
إسرائيل تنظر إلى توجه رام الله إلى الجنائية الدولية على أنه "عمل من أعمال الحرب" وتستخدم كل الوسائل المتاحة لعرقلة المحاكمة
خطة لتهديد ومراقبة المحكمة وضعتها الدولة العبرية تحت إشراف يوسي كوهين رئيس الموساد السابق
نتنياهو يرفع إجراءات المحاكمة إلى مرتبة "التهديد الاستراتيجي" ويعلن: 6 منظمات غير حكومية فلسطينية تنشط فى قضايا حقوق الإنسان منظمات "إرهابية"
بايدن يُظهر المعايير المزدوجة: مذكرة اعتقال بوتين "مبررة".. وإدانة قادة إسرائيل مرفوضة!
المحامى الفلسطينى راجى الصورانى: الدول الغربية فعلت كل ما تستطيع لتمنعنا من اللجوء إلى سيادة القانون
مكتب فاتو بنسودا مئات الشهادات ومقاطع الفيديو والخرائط والوثائق التي تكشف جميع جوانب الصراع.. وأحد المحامين: الفلسطينيون قدموا خلال 4 سنوات سنوات عربة مليئة بالأدلة الخاصة بهم كل شهر تقريبًا
انطلقت الحكاية منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلى أن توجت محاولات إدراج القضية الفلسطينية على الأجندة القضائية الدولية، الخميس 21 نوفمبر، بإصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه السابق ومسئول في حركة حماس، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.. هكذا بدأت الكاتبة الصحفية ستيفاني موباس رصدها لرحلة طويلة من التحرك السياسى و"النضال" الدبلوماسى للفلسطينيين، واستخدمت فى تحقيقها كل خبرتها كصحفية متخصصة في العدالة الجنائية الدولية، غطت المحاكمات المتعلقة برواندا ويوغوسلافيا السابقة وسيراليون والكونغو وساحل العاج وكينيا ولبنان وغيرها. وهي مؤلفة كتابي "القضاة والجلادين والضحايا" و"جوكر الأقوياء".. فإلى ما كتبته ستيفانى موباس فى صحيفة “لوموند” الفرنسية:
خطوة خطوة، بدأت الأحداث.. بحركة سريعة، جلس نبيل أبو زنيد، ممثل فلسطين آنذاك وسفيرها فى هولندا فيما بعد، وقد كُتب على يمينه "دولة فلسطين"، نظر إلى الحروف المنقوشة باللون الأبيض، ومد ذراعه، وبلمسة خفيفة على هاتفه الذكي، خلد اللحظة: "في 24 يونيو 2015، جلست فلسطين بين الدول الأعضاء لأول مرة بالمحكمة الجنائية الدولية، في لاهاي". كانت هذه خطوة أساسية في معركة دبلوماسية قضائية طويلة ومريرة. كان "هجوماً دبلوماسياً" تم التخطيط له من غزة ورام الله ونيويورك وليون بفرنسا، بهدف وضع القضية الفلسطينية على جدول أعمال العدالة الدولية ووضع حد للإفلات من العقاب الذي يحيط بنظام الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967.
بدأت هذه العملية في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من قبل مجموعة من المحامين من غزة، والسلطة الفلسطينية، وتباطأت بسبب سيل من العقبات، وتعرضت للحروب والتهديدات، لكنها نجحت في نهاية المطاف، حيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية، يوم الخميس 21 نوفمبر، أمر اعتقال دولي بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
ضربة البداية
بدأ كل شيء في يونيو 2006، عندما شنت إسرائيل العملية العسكرية "أمطار الصيف" على قطاع غزة. إن هذه الحرب، التي اندلعت رداً على أسر العريف الإسرائيلي جلعاد شاليط من قبل مقاتلي حماس، هي الأولى في سلسلة من ست حروب أدت إلى تدمير القطاع الساحلي. وفي مقر المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، ويديره في مدينة غزة، المحامى راجي الصوراني، 53 عاماً، الذى أقنع نفسه بأن الأدلة على الانتهاكات الإسرائيلية، التي جمعها موظفو مكتبه بعناية منذ سنوات، يجب أن تجعل من الممكن إحالة القضايا إلى المحكمة الجنائية الدولية التى أنشئت عام 2002 بموجب نظام روما الأساسي متعدد الأطراف، المعتمد عام 1998، وتأسست بناءاً عليه المحكمة الجنائية الدولية.
وبهذا الإيمان الراسخ في عقله، وصل الصورانى إلى لاهاي للقاء لويس مورينو أوكامبو، المدعي العام الأول للمحكمة آنذاك. يقول المحامي الغزاوي الذي تم الاتصال به عبر الهاتف: "لقد حاول منذ البداية تثبيطي، وقال لي إنه إذا لم يقبله الأمريكيون، فلن يفتح تحقيقًا أبدًا".. فرص الحصول على ضوء أخضر من واشنطن معدومة. وتشعر الولايات المتحدة، التي لم توقع على نظام روما الأساسي، بالقلق من هذا النوع من الهيئات الدولية. وهي تمنع القضاة في لاهاي من النظر فى تصرفات قواتهم آنذاك في أفغانستان، وكذلك تصرفات حلفائهم، مثل إسرائيل.
تغير ميزان القوى
يناير 2009، كانت الحرب الثانية في غزة. وأدى طوفان القنابل التي ألقيت على الشريط الرملي إلى خروج آلاف المتظاهرين إلى شوارع المدن الفرنسية الكبرى. جيل ديفرز المحامي فى ليون بفرنسا كان واحداً منهم. إنه لا يعرف "الكثير عن فلسطين"، لكنه بدوره يقبل التحدي أمام المحكمة الجنائية الدولية. وفي 14 يناير 2009، وبتفويض من حوالي مئة جمعية، أرسل المحامي تقريراً أولياً إلى المحكمة، باسم أميرة الكريم، فتاة فلسطينية تبلغ من العمر 15 عاماً.
ويذهب علي الخشان، وزير العدل آنذاك في السلطة الفلسطينية، إلى لاهاي في 22 يناير 2010، برفقة جيل ديفرز. ويتبعه بعد شهر رياض المالكي، وزير الخارجية، الذي يقف بدوره إلى جانب لويس مورينو أوكامبو المدعي العام الأول للمحكمة. إن الفكرة القائلة بأن الفلسطينيين قادرون على قلب ميزان القوى مع إسرائيل، في مجال العدالة الدولية، بدأت تحرز تقدماً في الدوائر السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة. الرجل الثاني في البعثة الفلسطينية لدى الأمم المتحدة، ماجد بامية يقتبس من فيصل الحسيني (1940-2001)، الشخصية البارزة في القومية الفلسطينية، قوله: "أستطيع التغلب على مايك تايسون، فى مباراة أشبه بالشطرنج، ولكن ليس في مباراة ملاكمة".
وفي إسرائيل، يُنظر إلى توجه رام الله إلى المحكمة الجنائية الدولية على أنه "عمل من أعمال الحرب". ويفرض المدعي العام العسكري رقابة على نشر هوية كبار الضباط الذين يقودون الوحدات العاملة في غزة. ويعلن وزير الدفاع ايهود باراك مرسوماً لدعم الجنود "ضد أي أضرار محتملة ناجمة عن هذه العمليات". ويطلب المستشار القانوني للجيش من واشنطن التأثير "على الفلسطينيين وعلى المحكمة الجنائية الدولية"، حسبما كشفت برقية دبلوماسية أمريكية نشرها موقع ويكيليكس ومؤرخة في 27 فبراير 2010. وعلى مدى السنوات الأربع عشرة المقبلة، تستخدم إسرائيل كل الوسائل المتاحة لها (القانونية والدبلوماسية والأمنية) لمواجهة المحكمة.
في مايو 2011، أعلن محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية عن نيته ضم فلسطين إلى الأمم المتحدة كدولة كاملة العضوية. ومن شأن هذا الاعتراف أن يسمح للفلسطينيين بالدمج فى العشرات من المنظمات المتعددة الأطراف، لتدويل الصراع والمواجهة وجهاً لوجه مع المحتل. فكرة رئيس السلطة الفلسطينية هي جعل الصراع "مسألة قانونية، وليس مجرد مسألة سياسية". كما أنه سيمهد الطريق لاتخاذ إجراءات قانونية ضد إسرائيل. ومن الصور التى تحفظها ذاكرة التاريخ، تلك الصورة التى يرفع فيها محمود عباس يده عارضاً نسخة من الرسالة التي تطلب قبول فلسطين في الأمم المتحدة كدولة ذات سيادة، خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 23 سبتمبر 2011، في نيويورك.
الملف يتعثر
وبينما يقوم الفلسطينيون بتحسين استراتيجيتهم في الأمم المتحدة، كان يجب على المدعي العام في لاهاي أن يقرر ما إذا كان سيفتح تحقيقاً أم لا. وهو يلتمس آراء قانونية من الجميع.. من السلطة الفلسطينية، والجامعة العربية، وأساتذة القانون، والمحامين، وغيرهم، مما يوحي بأن الملف يتقدم. لكن في الواقع الأمر كان يتعثر. في نهاية فترة ولايته، يلتقى لويس مورينو أوكامبو بالسفير الإسرائيلي في هولندا.. اجتماع سري، لأن الدولة العبرية تمتنع عن أي عمل يمكن تفسيره على أنه اعتراف بهذه المحكمة التي لم تنضم إليها. ثم، قبل فترة من تسليم دفاتره ومغادرة منصبه بالمحكمة، قرر أوكامبو إغلاق الملف، وقال قولته المشهورة في عام 2012: "إذا أرادت فلسطين يومًا ما الترافع أمام المحكمة، فيجب عليها أولاً أن تعترف بها الأمم المتحدة". ورد راجي الصوراني قائلاً: "لقد وضع أكبر عدد ممكن من العقبات قبل مغادرة المحكمة الجنائية الدولية".
في نيويورك، قالت المملكة المتحدة وفرنسا أنهما على استعداد للتصويت لصالح قبول فلسطين في الأمم المتحدة، لكنهما تطالبان الفلسطينيين أولاً بالتراجع عن المحكمة الجنائية الدولية. ويعلق الصورانى بقوله: "كنت أتوقع أن تقول لنا أوروبا ألا نلجأ إلى السلاح. لكن الأمر كان على العكس تمامًا، فقد منعونا من اللجوء إلى سيادة القانون.. لقد كانوا يفعلون كل ما في وسعهم لمنعنا من الذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية"!.
ومع ذلك، فإن التحذيرات الغربية لا تؤتي ثمارها.. في 29 نوفمبر 2012، حصلت فلسطين على اللقب الغريب كدولة مراقبة "غير عضو" في الأمم المتحدة. ويقوم الفريق الصغير من الدبلوماسيين المسئولين عن تنفيذ الاستراتيجية بالحسابات: هذا الوضع الجديد يفتح الباب أمام فلسطين أمام الانضمام لـ63 اتفاقية ومنظمة متعددة الأطراف، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية. ورداً على ذلك، أعلنت الدولة اليهودية عن بناء 3000 منزل جديد للمستوطنين الإسرائيليين في القدس الشرقية المحتلة والمضمومة لإسرائيل بالمخالفة للقوانين الدولية.
بين عامي 2013 و2014، ومن أجل إعطاء فرصة لجهود جون كيري، وزير خارجية باراك أوباما، الذي كان يحاول إحياء عملية السلام، علق الفلسطينيون هجومهم الدبلوماسى لمدة عشرة أشهر تقريبًا.. ولكن عندما اندلعت حرب جديدة في غزة في صيف عام 2014، نشأ سؤال ملح: هل ينبغي التصديق على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية أم لا؟ ويحذر الرئيس عباس: "ليس من دون موافقة جميع الفصائل الفلسطينية"، فهو يدرك جيداً أن الهجمات التي ترتكبها حماس، وخاصة هجماتها الصاروخية على المناطق السكنية في جنوب إسرائيل، قد تثير اهتمام القضاة في لاهاي بقدر ما تثير اهتمام المستوطنين والجنود الإسرائيليين.
يؤكد جيل ديفرز، الذي كان يقدم المشورة لحماس من حين لآخر: "عباس لم يكن يعتقد أن الفصائل ستقبل"، ويتذكر راجي الصوراني قائلاً: "لقد أخبرت الفصائل بأن علينا القبول، لكننا كنا واضحين للغاية: الوقوف إلى جانب المضطهدين لا يعطي تفويضاً مطلقاً لفعل أي شيء. وحتى المقاومة المسلحة يجب أن تحترم القانون الدولي".
لا مزيد من التردد
وبينما تهدد رام الله بالدخول إلى المحكمة الجنائية الدولية، فإنها لا تزال تأمل في الحصول على تنازلات من الدولة اليهودية. ويطالب الفلسطينيون مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالالتزام بجدول زمني لإنهاء الاحتلال. لكن في ديسمبر 2014، أعلن كبير مفاوضي السلطة الفلسطينية، صائب عريقات "لن يكون هناك مزيد من الانتظار، لا مزيد من التردد، لا مزيد من التباطؤ".. وفي 2 يناير 2015، قدم محمود عباس الوثيقة الرسمية للتصديق على نظام روما الأساسي (التى أُنشئت المحكمة الجنائية على أساسه) إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
وفي 25 يوليو 2014، في باريس، يعقد جيل ديفير مؤتمراً صحفياً للإعلان عن محاكمة باسم فلسطين ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية. وتستهدف الشكوى المقدمة إلى المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية آنذاك فاتو بنسودا، "جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في يونيو ويوليو 2014 في فلسطين، كجزء من عملية الجرف الصامد العسكرية".
وفي لاهاي، تفتح المدعية العامة الجديدة آنذاك فاتو بنسودا تحقيقاً أولياً، كمرحلة تسبق التحقيق، في حرب 2014 في قطاع غزة. ثم انضمت "دولة فلسطين" رسميًا إلى المحكمة في 1 أبريل 2015. وعلى مدى السنوات الأربع التالية، تلقى مكتب فاتو بنسودا مئات الشهادات ومقاطع الفيديو والخرائط والوثائق التي تستكشف جميع جوانب الصراع: الحروب في غزة، واستعمار الأراضي الفلسطينية، والفصل العنصرى فى الضفة الغربية. حتى أن أحد المحامين قال عن حق: "يأتي الفلسطينيون لتقديم عربة مليئة بالأدلة الخاصة بهم كل شهر تقريبًا".
وكان يمكن لدولة فلسطين تفعيل التحقيق بعد الانضمام رسمياً للمحكمة، لكن المدعية العامة ليست في عجلة من أمرها. وقال مسئول في المحكمة الجنائية الدولية: "لقد أرادت الانتظار حتى السنوات الأخيرة من ولايتها". داخل مكتبها، كانت الخلافات عميقة. وكان لدى الإسرائيليين إمكانية الوصول. قال أحد المحامين في ذلك الوقت: "في كل مرة كان علي فيها العمل على نقطة قانونية جديدة، كنت أتلقى، بعد بضعة أيام، في صندوق بريدي تحليلات من خبراء مؤيدة لوجهة النظر الإسرائيلية. وهى تحليلات لم أطلبها أبدًا. لقد كان وضعاً فضولياً ومستفزاً للغاية".
في ديسمبر 2016، أبلغت فاتو بنسودا الدول الأعضاء في المحكمة أن قادة منظمتين فلسطينيتين غير حكوميتين، هما الحق والميزان، اللتين تتعاونان بشكل وثيق مع خدماتها، "تعرضتا للتهديدات وأعمال "الترهيب والتدخل". ثم تتعرض المدعية العامة نفسها للعديد من التهديدات، حسبما ذكرت صحيفة "الجارديان" في مايو 2024، في تحقيق تناول بالتفصيل خطة مراقبة المحكمة التي وضعتها الدولة العبرية والتى أشرف عليها يوسي كوهين، رئيس الموساد من 2016 إلى 2021 والصديق المقرب لبنيامين نتنياهو.
انتهاك القانون الدولي
ربيع 2018 مليء بالمخاطر. في غزة، في ذكرى النكبة - النزوح القسري لنحو 750 ألف فلسطيني في أعقاب إنشاء إسرائيل في عام 1948 - يتم تنظيم مظاهرات ضخمة، تسمى "مسيرات العودة"، على طول السياج مع إسرائيل.. عشرات الفلسطينيين يسقطون تحت رصاص الاحتلال الإسرائيلي. وفي القدس، تُعرض ملصقات عبرية تحمل عبارة للفخر: "ترامب يجعل إسرائيل عظيمة" بأحجام كبيرة في الجزء الغربي من المدينة. ونقلت الولايات المتحدة سفارتها إلى هناك، والتي كانت، مثل كل الممثليات الغربية الأخرى، موجودة في تل أبيب.
هذا الانتهاك للقانون الدولي يثير غضب محمود عباس. وبعد سبعة أيام، يرفرف العلم الفلسطيني على قاعة المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. واتصل الوزير رياض المالكي على الفور رسمياً بالمدعية العامة وطلب فتح تحقيق في قضية الاستعمار ونظام "الفصل العنصري". وبينما يهدد جون بولتون، مستشار الأمن القومي لدونالد ترامب، المحكمة الجنائية الدولية بفرض عقوبات، فإن فاتو بنسودا تؤجل مرة أخرى. وفي ديسمبر 2019، أرسلت الملف مرة أخرى إلى القضاة، وطلبت منهم تحديد المنطقة التي تخضع لولايتها القضائية بدقة. وحتى قبل أن توقع على طلبها، يقدم لها المدعي العام الإسرائيلي، أفيخاي ماندلبليت، حججه. "لقد كان الإسرائيليون دائمًا يشعرون وكأنهم في وطنهم في المحكمة" حسبما يعلق المحامى الفرنسى جيل ديفرز.
ويدعو القضاة المحامين وأساتذة القانون والمنظمات غير الحكومية والدول للحضور والمناقشة في المحكمة. ولا تظهر إسرائيل علناً، لكن حلفاءها يدافعون عنها. وتعارض المملكة المتحدة وكندا وأستراليا وألمانيا والمجر وأوغندا والنمسا وجمهورية التشيك والبرازيل فتح التحقيق، تحت زعم أن "فلسطين ليست دولة"، حسبما أكدت هذه الدول بالطريقة القانونية التي تعشقها لاهاي.
"تهديد استراتيجي" لإسرائيل!
وفي فبراير 2021، بعد رحلة بحث قانونية طويلة، أكد القضاة اختصاص المحكمة في الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967. وأعلنت فاتو بنسودا، في الشهر التالي، فتح التحقيق رسميًا. وذكرت أن الأمر "يتعلق بأي جريمة حرب أو إبادة جماعية أو جريمة ضد الإنسانية، تُرتكب منذ يونيو 2014". وفي إسرائيل، رفع بنيامين نتنياهو المحكمة إلى مرتبة "التهديد الاستراتيجي" للدولة. وأعلنت إسرائيل في أكتوبر 2021 أن ست منظمات غير حكومية فلسطينية، تنشط فى قضايا حقوق الإنسان، منظمات "إرهابية". ولكن بدلاً من محاولة العمل على رد المحكمة، فى الملفات التي فتحتها في لاهاي، فإن الدولة اليهودية تفضل التزام الصمت، حيث تخشى إضفاء الشرعية على المحكمة من خلال الترافع أمامها.
هل يراهن الطرفان على المدعي العام الجديد؟.. بعد توليه منصبه في يونيو 2021، يشتبه الفلسطينيون والمتعاطفون معهم في أن البريطاني كريم خان متحيز لصالح إسرائيل. لعدة أشهر، لم يعد يتم استقبال رياض المالكي في لاهاي. وقام كريم خان بتجميد التحقيق في الجرائم الأمريكية في أفغانستان. ورفع جو بايدن العقوبات التي فرضها دونالد ترامب في سبتمبر 2020 على المدعية العامة السابقة.
ومع ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تعارض اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على "قيادات الدول غير الأعضاء، مثل الولايات المتحدة أو إسرائيل". وقد ضعف هذا الموقف بسبب الحرب الروسية الأوكرانية التى بدأت في فبراير 2022، وإدانت المحكمة فلاديمير بوتين في العام التالي. إن روسيا ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية مثل إسرائيل أو الولايات المتحدة. لكن مذكرة الاعتقال الصادرة في مارس 2023 ضد الرئيس الروسي "مبررة"، حسبما يعتقد جو بايدن، لتظهر المعايير المزدوجة إزاء قضية واحدة.
ثم جاء هجوم 7 أكتوبر. وقتل مهاجمو حماس ما لا يقل عن 1200 شخص، من بينهم 360 جندياً، واحتجزوا ما يقرب من 250 رهينة في قطاع غزة. رداً على ذلك، تم إطلاق عملية "السيف الحديدي"، مما أدى إلى تدمير قطاعات كاملة من القطاع.. في ليلة 23 أكتوبر، دمرت طائرات F16 الإسرائيلية منزل راجي الصوراني في حي تل الهوى بمدينة غزة. وعلى الفور، ينتقد المحامي الصوراني صمت كريم خان ويقول بغضب "عار عليك.. إنه متواطئ، لا يفعل شيئاً".
خطر الإبادة الجماعية
وفي بداية ديسمبر 2023، يقوم كريم خان بزيارة "خاصة" إلى إسرائيل، بدعوة من عائلات الرهائن وضحايا هجوم 7 أكتوبر. يذهب المدعي العام إلى الكيبوتسات التى شهدت هجوم حماس وإلى موقع مهرجان الموسيقى في ريم. وتشكل الجرائم التي يرتكبها الفلسطينيون التابعون لحماس على الأراضي الإسرائيلية جزءاً من تحقيقاته. ثم يتجه كريم خان نحو رام الله ويعلن بصوت كالرعد: "إذا لم تلتزم إسرائيل بالقانون الآن، فليس لها أن تضطر إلى الشكوى لاحقًا".
في نهاية يناير 2024، أعلن قضاة محكمة العدل الدولية، الهيئة القضائية الدولية الأخرى في لاهاي، أن هناك "خطراً محتملاً بحدوث إبادة جماعية" في غزة. ويأمرون إسرائيل باتخاذ التدابير اللازمة لحماية المدنيين. ويعلن بنيامين نتنياهو أنه لن يستسلم، لكن الفخ ينغلق عليه ببطء. وفي إبريل، اعتقدت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي أنهم يأتون لمساعدة نتنياهو من خلال تهديد كريم خان. وكتبوا في رسالة "إذا استهدفتم إسرائيل فسوف نستهدفكم"، واختتموها بكلمات تليق بفيلم من الدرجة الثانية: "لقد حذرناكم".
وفي 3 مايو، رد كريم خان بالتهديد بمقاضاة أي شخص يعرقل عمله. وفي العشرين من مايو، أعلن أنه أحال إلى القضاة طلبات لإصدار أوامر اعتقال ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي، ووزير دفاعه، يوآف جالانت، وثلاثة من مسؤولي حماس، بما في ذلك يحيى السنوار. ويصر المدعي العام على أن "حياة جميع الضحايا، أينما كانوا، لها نفس القيمة". وفي واشنطن ولندن والقدس الغربية وأماكن أخرى، يُتهم بمساواة حماس "الإرهابية" بإسرائيل "الديمقراطية".
ويستغرق القضاة ستة أشهر للبت في طلب المدعى العام. الإجراء، الذي من المفترض أن يتم خلف أبواب مغلقة، يتخلله سلسلة من التقلبات والمنعطفات الغامضة.. يتعرض المدعي العام لتمرد داخل مكتبه، ويجد نفسه هدفًا لادعاءات تتعلق بسلوك جنسي غير لائق - وهو ما يدحضه - والتي تناولتها جمعية الدول الأطراف في المحكمة الجنائية الدولية التي أعلنت، في 11 نوفمبر، فتح باب التحقيق معه بتهمة "سوء السلوك" المزعوم. وسواء كان ذلك صحيحاً أم خطأ، يبدو أن قبضة أجهزة المخابرات الإسرائيلية تقترب من نطاق صلاحيات المحكمة القضائية.
وفي الوقت نفسه، قتلت القوات الإسرائيلية اثنين من كبار مسئولي حماس الثلاثة الذين كانوا تحت نظر المدعي العام. وقُتل إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي للحركة الإسلامية، في انفجار مستهدف في طهران في 31 يوليو. يحضر جيل ديفرز نسخة من شهادة وفاته باللغة الفارسية من العاصمة الإيرانية حيث ذهب خلال الصيف. وكان يحيى السنوار، زعيم حماس في قطاع غزة، قد اغتيل بنيران دبابة في أكتوبر في رفح. وأكدت الحركة وفاته. أما القيادي الثالث في حركة حماس في مرمى كريم خان، وهو محمد ضيف، رئيس الفرع العسكري، فقد أعلنت إسرائيل عن تصفيته بداية شهر أغسطس الماضي، لكن لم يتم تقديم أي دليل حتى الآن. في 21 نوفمبر، تم وضع نتنياهو وجالانت وفلسطيني يُفترض أنه مات تحت مذكرة اعتقال، تتويجًا لخمسة عشر عامًا من "القتال" الدبلوماسى.