إذا أردت رؤية الصين فعليك أن تفتح عينيك على اتساعهما، لأن الصين ليست بالدولة السهلة التى يمكن اختصارها فى زاوية واحدة، الصين هى الحاضر الغائب والغائب الحاضر فى كل الصراعات التى يشهدها العالم اليوم، لذلك تحتل الصين مكانة مرموقة على الساحة العالمية، وتتزايد تلك المكانة من خلال قرارات الصين المؤثرة فى كل القضايا المطروحة عالميا، لكن الملاحظة الأساسية فى مواقف الصين هى المشاركة الانتقائية بمعنى أنها لا تأخذ الخط على استقامة، فى بعض الصراعات تجدها حاضرة بشكل بارز ويظهر هذا فى صراعها مع تايوان المدعومة أمريكيا، بينما فى صراع آخر نلاحظ أنها تحافظ على مسافة حذرة فى صراعات أخرى، مثال على ذلك ردها على العقوبات الأمريكية المتعلقة بموقف الصين من الحرب الروسية الأوكرانية حيث رأت الصين أن عدم التصعيد هو الرد الأمثل.
ويمكننا وصف مواقف الصين فى قضايا الشرق الأوسط بأنها مواقف دقيقة متوازنة ولذلك وصفها العديد من المحللين السياسيين أنها دولة تسير بحذر عبر مشهد دولى معقد بخطوات محسوبة بعناية.
طموحات الصين لا تنتهى ومعها كل الحق فى ذلك باعتبارها الكثافة السكانية الأعلى فى العالم لذلك تختار الصين معاركها بعناية، لضمان حماية مصالحها الخاصة دون التورط فى صراعات قد تعرقل طموحاتها طويلة الأجل.
ومن المعروف أن الخصم الرئيسى للصين على هذا الكوكب هى الولايات المتحدة الأمريكية، والتوترات بينهما لا تتوقف يوما واحدا، وشهدنا مؤخرا فرض الولايات المتحدة عقوباتها على الشركات الصينية المتهمة بتزويد روسيا بتكنولوجيا عسكرية، حيث تتهم الولايات المتحدة هذه الشركات بتقديم طائرات مسيرة وتقنيات أخرى تدعم جهود روسيا فى الحرب ضد أوكرانيا، وتهدف هذه العقوبات إلى حرمان تلك الشركات من الوصول إلى الأنظمة المالية والتكنولوجيا الأمريكية، ومن وجهة نظر أمريكا أنه فى حال نجاح تنفيذ تلك العقوبات سوف تكون النتيجة المباشرة هى إضعاف القدرات العسكرية الروسية وكذلك إرسال رسالة قوية إلى بكين، تقول فيها أمريكا «نحن هنا مستعدون للصراع».
الصين اكتفت فى ردها على العقوبات الأمريكية أنها نفت تورطها المباشر فى الحرب، وبالرغم من هذا النفى يلاحظ المراقبون أن الصين لم تبتعد عن روسيا وأن التواصل بينهما يتم على مدار الساعة، والشاهد على ذلك هو أن العلاقات الاقتصادية والسياسية بين بكين وموسكو قد تعمقت بشكل واضح منذ غزو أوكرانيا، حيث يجد الطرفان أرضية مشتركة فى مواجهة النفوذ الغربى، وبالرغم من امتناع الصين عن إدانة أفعال روسيا بشكل مباشر إلا أن بكين تتعامل بعين يقظة ولا تريد قطع علاقاتها مع أكبر شركائها التجاريين فى الغرب، خاصة الولايات المتحدة وأوروبا من أجل استقرار الاقتصاد الصيني.
وعلى ذلك يمكننا الفهم بأن مشاركة الصين فى حرب أوكرانيا بشكل غير مباشر يعتبر تأكيدا لقرارها بعدم الانفصال عن روسيا كما يؤكد رغبتها فى الحفاظ على نفوذها على الساحة العالمية دون الانجرار إلى نزاع مباشر، وفى ذات الوقت تحافظ على القنوات الدبلوماسية مفتوحة مع كلا الجانبين الروسى والأوكرانى، إذن هى لعبة مزدوجة لا تعزل روسيا باعتبارها الحليف الرئيسى، ولا تستفز الغرب تماماً. وفى اختيارها عدم الانخراط الكامل فى هذا الصراع.
نفس المدرسة السياسية الصينية تعمل بكل طاقتها فى الشرق الأوسط لذلك رأينا عندما تصاعدت التوترات بين إسرائيل وإيران، وقفت الصين مجدداً فى وضع دقيق بين مصالح متنافسة، حيث إيران وهى المزود الرئيسى للنفط للصين وكذلك إسرائيل التى تعتبر شريكاً رئيسياً للصين فى التكنولوجيا والأمن السيبرانى، هذا الصورة المتشابكة تضع بكين فى موقف حساس، حيث تسعى إلى عدم الانحياز لأى طرف مع الحفاظ على علاقاتها القوية مع البلدين، بالإجمال يمكن القول إن الصين تتبنى سياسة الحياد الدبلوماسى فى هذا الصراع، وتدعو إلى الحوار وتحث على تجنب التصعيد، هذا الموقف المدروس للصين يساعدها على عدم التورط فى نزاع قد يهدد مصالحها الاقتصادية فى المنطقة، لأن اندلاع الحرب بين إسرائيل وإيران سوف يؤدى إلى تعطيل إمدادات النفط، وبالتالى ارتفاع الأسعار العالمية وهو ما يزعزع استقرار الاقتصاد الصينى الذى يعتمد بشكل كبير على واردات الطاقة.
وبمقارنة الموقفين الأمريكى والصينى فى هذه الأزمة رأينا الولايات المتحدة وهى تلعب دورًا نشطًا تاريخيًا فى صراعات الشرق الأوسط بانحياز كامل إلى إسرائيل، بينما تضع الصين نفسها كوسيط وشريك اقتصادى، وليس كفاعل عسكرى. وهو ما يتيح لها مواصلة توسعها فى المنطقة دون المخاطر المرتبطة بالتورط العسكرى.
المرونة الصينية وتجنبها الحروب المباشرة تتوقف وتنتهى عندما يتعلق الأمر بجزيرة تايوان وموقفها هناك لا يقبل المساومة حيث ترى بكين أن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين، وأى محاولة للاستقلال تعتبرها تحدياً مباشراً لسيادتها، وجاءت التدريبات العسكرية الأخيرة بالقرب من تايوان كرسالة واضحة تؤكد على مدى جدية الصين فى هذا الشأن.
يكشف انخراط الصين الانتقائى فى الصراعات العالمية عن دولة تركز على الأهداف الاستراتيجية طويلة الأجل بدلاً من المكاسب قصيرة الأجل. من خلال اختيار معاركها بعناية، تضمن الصين استمرار نموها الاقتصادى وتوسع نفوذها الجيوسياسى مع تقليل المخاطر المرتبطة بالتورط المباشر فى الحروب. سواء أكان الأمر يتعلق بالحفاظ على العلاقات مع روسيا وتجنب غضب الولايات المتحدة، أو موازنة العلاقات بين إسرائيل وإيران، أو الثبات على موقفها بشأن تايوان، فإن تحركات الصين تعكس مقاربة محسوبة مصممة لضمان مستقبلها فى عالم يزداد انقساما.