الخميس 21 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

رغم حمولة معاني ثقيلة.. مراكب أشرف الصباغ تحاول الإبحار بسلام

مقطع من صورة غلاف
مقطع من صورة غلاف رواية مراكب الغياب لأشرف الصباغ
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

انتهيت للتو من قراءة أحدث روايات الكاتب المصري أشرف الصباغ "مراكب الغياب"، ووجدتها عملا يمجد الكلمة فموضوعها الرئيسي في نظري صراع مع مفهوم المعنى وعلاقة الكلام بالأشياء، فكانت الكلمة الرئيسية التي خلقت خطا سرديا مدهشا جعلنا نكمل الورق إلى الآخر هي كلمة المراكب التي افتتحت بها الرواية ورغم أنها ارتبطت بسيرة رجب الصافوري (أحد أبطال العمل) إلا أنها أصبحت رمزا لقدر مجتمع كامل مكون من الراوي ورجب ورشاد ومينا أنداروس وعماد ميخائيل وأم حافظ ومصطفى ونسمة ونورا ومديحة.

ثم لعب العمل كثيرا على الرموز الثقافية الخاصة بالبيئة، فمن المفردات تستطيع تحديد جغرافيا الشخصيات وتكوينهم الثقافي وطبقتهم، وأبرز سماتهم أنهم معزولون عن المجتمع الذي قد تمثله أم حافظ وصورة الانعزالية تلك قد يدلل عليها تكرار جملة "يا ابني الناس عايزة تشخ وأنت عمال تكلمهم في فوكو وموكو وسعيد" فلقد وصلت بهم العزلة أنهم لم يدركوا حتى ضرورة التبرز.

تربط تلك الرموز العمل بعالم خارجه هو مجتمع المثقفين في القاهرة الذين يفرون من قراهم ومن صيرورة الحياة في تلك القرى بحثا عن الذات في تلك المدينة المكتظة بالحوانيت والمقاهي والأحزاب و"فوكو وموكو وسعيد". فمن كان فرد في هذا المجتمع (مجتمع مثقفي القاهرة) سيتضخم في رأسه النص الروائي لأنه سيرتبط بنص مواز يحدث في الواقع ويعيشه، ولو كان القارئ بعيدا عن هذا المجتمع سيعيش تجربة من الغرابة وسيتساءل (معقول فيه ناس كده؟!!).

وقد يصبح أسلوب الصباغ رمزا ثقافيا في حد ذاته، فيسخر الكاتب أحيانا من تصرفات اليساريين المصريين والحكومات العربية والغربية والصينية وفي خضم تلك السخرية يعطي أسماء ومصطلحات في غاية الجدية ويقللها ويخرج منها نكتة، هذا أسلوب معتاد يمارسه كثيرا في كتاباته العامة خارج الكتابة الإبداعية ولا يمكن لأي قارئ يتعرض لكتابات الصباغ العامة المنشورة في مجلة أو على موقع التواصل الاجتماعي دون أن يربط حالة الساركيزم داخل العمل بتلك الكتابات، وأتذكر شابا في إحدى موائد النقاش لأعماله رفع يده مرة وأخذ يتحدث عن أسلوبه في الكتابة والحقيقة أن الشاب لم يتحدث عن الرواية التي كانت تناقش حينها إطلاقا بل كان يتحدث عن كتاباته في مواقع التواصل الاجتماعي.

يعتمد أسلوب الصباغ في "مراكب الغياب" على تركيب القصص أكثر من اعتماده على التأويل فكما أسلفنا الذكر أن الخط الرئيسي الذي يدفع القارئ للتتابع هو البحث عن معنى "المراكب" لكن لا يوجد حدث بارز يطرح سؤالا، ذلك السؤال يعمل على إرجاء الإجابة حتى آخر نفس في القراءة، لكن بدلا من ذلك يلعب الصباغ على تدوير الألفاظ حول معانيها أنت من أول قراءة تحوال أن تبحث عن معنى "المراكب" تلك الكلمة التي تتكرر كثيرا في العمل لتدل في البداية على معنى معين لكن هذا المعنى يتكثف ويتصاعد ويتعقد حينما تتكرر هذه الكلمة في مواضع أخرى.

 وللتأكيد على تجنب الصباغ لأسلوب الرواية البوليسية الكلاسيكي، نجد في الفصول الأولى مثلا للعمل أنه أصبح لدينا صورة كاملة عن كل شيء، كان أبرز حدث ظهور نورا خطاب (من أبطال العمل) في الحانة وظننت في أول قراءتي أن الصباغ سيلعب طول الوقت على كشف غموض تلك المرأة لكنه بدلا من ذلك عرفنا كل شيء عنها مبكرا، إذن هذا الكاتب لا يريد أن يلعب لعبة العقد والأحداث لكنه خطفنا بلعبة أخرى تكمن فيها قيمة السرد وهي تركيب القصص وكأن المراكب محملة بالقصص القصيرة مع كل مركب منتظرة هنالك قصة تلو قصة، تتعاقب تلك القصص داخل قصة كبرى تكمن في المعنى الغامض وراء كلمة "المراكب".

تضمنت "مراكب الغياب" مقاطع غاية في الشعرية لكنها كانت قليلة ولسنا نعرف لماذا يتم تغيير الجو النفسي للعمل بهذا الشكل المفاجئ الصادم في بعض المناطق مثلا يقول: "لم أعد أسحر النساء لأن الطبيعة غيرت وصيتها في اللحظة الأخيرة وقررت أن تمنحهن السر رغم وعود الرب فصرن الساحر والمسحور ومصدر البهجة والألم والألق وسر الضياء وديدن البصر، كل ما هنالك أن المتعة لابد وأن تكون بحجم الألم، أن تدب القدم بغير وجل، أن يتسع القلب لأطفال الشوارع وللطير والشجر، لابد أن تكون الفرحة بقدر السر كي تتسع الرؤية ويطول النظر، كل ما هنالك أنهن أغرين الله وأخذن منه الصك، سحرنه واختطفن الهبة، وحفرتْ الطبيعة الوشمَ ووَقَّعتْ تحته بالكلمة الوحيدة التي بقيت من الأسطورة (كن) فكانوا وكُنَّ وأصبحن وصرن". 

مونولوجات داخلية رائعة بلا شك لكن لم يتم التمهيد لها منذ بداية العمل وكان الكاتب الراحل نجيب محفوظ قد اعتاد سرد هذه المونولوجات كثيرا ولكن كان يمهد لها ببناء هرمي لكن عن الصباغ يأتي المونولوج الداخلي مفعما بشجن مفاجيء بعد نوبة حكي في غاية الكوميديا الواقعية.

من أجمل المشاهد التي لفتت نظري مشهد موت زميلهم سابحا على سطح نهر النيل أمام ماسبيرو هذه مشهدية سينمائية في غاية الدهشة ومفجرة للرمزيات والدلالات، أيضا قصة سرايا الدكتور نعمان بالوادي الجديد.

ما لفت نظري أيضا تحميل شخصية سامح علوان (أحد أبطال العمل والراوي) أكثر مما تحتمل بسبب إسناد إليه روي الرواية من أولها إلى آخرها دون مبرر يؤله لذلك، لأنه أحد الأفراد العاديين ضمن الشلة، هذا أدى في النهاية إلى أنه في مقاطع معينة لا تستطيع فيها التفريق بين تصرفات رجب الصافوري وسامح علوان، في قصة سرايا الوادي الجديد شعرت أن رجب الصافوري هو سامح علوان المتأمل الذي يستمع كثيرا ويضحك وينبهر، بينما رجب يظهر كشخصية قيادية في العمل لماحة وصاخبة كان من الممكن أن يناطح الدكتور صاحب السرايا ويعامله بندية وليس بالاستكشاف والانبهار بعالمه، شخصية سامح علوان تليق على هذه الصفات أكثر.

في هذا العمل ثمة طاقة تدفق هائلة للمشاهد، وهي غير معتادة في الأعمال السابقة للصباغ، هذه الطاقة تؤهل النص الروائي أن يصبح نصا مسرحيا يعطي براحا إبداعيا لفناني السينوغرافيا بسبب لعبة الشخصيات التي فعلها في العمل. ففي العمل 10 شخصيات رئيسية تدور حول بعضها البعض كما لعبة الكراسي الموسيقية تتبدل أدوارهم وتدور دوائرهم ومراكبهم في دوامات وتتصفى المجموعة بشكل تدريجي: رأيته تصميم لأداء حركي أكثر من رائع إذا نفذ على مسرح غرفة أو مسرح علبة أو حتى على هيئة كوريوجرافيا بلا أي حوار.