في قصّة نحَميا، حاول أعداء اليهود إيقاف العمل العظيم الذي كان يقوم به نحميا، وهو بناء سور أورشليم.. فتارةً كانوا يتّهمونه بالخيانة والتَمَرُّد على الملك، وتارةً يسخرون منه ويُحَرِّضون عليه، وتارةً يهدّدونه.. وعندما فشلوا في إيقافه أو تهبيط عزيمته، قرّروا بحيلة خبيثة أن يستدرجوه ليصنعوا به شرًّا، فطلبوا أن ينزل ويلتقي بهم في إحدى البقاع، أمّا هو فكان ردّه الحاسم: "إِنِّي أَنَا عَامِلٌ عَمَلاً عَظِيمًا فَلاَ أَقْدِرُ أَنْ أَنْزِلَ" (نح6: 3)..!
وبمعونة الله، استكمل نحميا مهمّته في بناء ذلك السور العظيم، وخُزِيَ كلُّ أعدائه..!
كان نحميا واعيًا لقيمة عمل الله الذي يقوم به، فأعطاه الأولويّة، ولم ينشغل بالمشاحنات والأكاذيب والمهاترات والشائعات والافتراءات؛ التي كان يُطلقها أولئك المعاندون والمقاومون لكلّ عمل صالح. فلم يشتبك معهم أبدًا، ولكنّه أيضًا لم يَخضع لتهديداتهم ولم يَخَفْ من هجومهم، ولم يتوقّف أبدًا عن أداء رسالته التي كلّفه الله بها، فتمّمها بكفاءة وبكلّ أمانة..!
لقد كان نحميا نموذجًا جميلاً للخادم الأمين القويّ، المسنود على نعمة الله، والذي يحاول بكلّ قلبه أن يتمّم مشيئة الله في حياته. فهو أوّلاً وأخيرًا يعمل لدى الله ولحسابه، وليس لحساب الناس ولا لحساب ذاته، فيقول مع القدّيس بولس الرسول: "لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَالْخِدْمَةَ الَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ اللهِ" (أع20: 24).
الخادم الذي بهذه الصورة لا يهتزّ من مضايقات البعض له، ولا يردّ على الشرّ بالشرّ.. بل يحرص على السموّ والترفُّع عن الصغائر، مُصلّيًا لأجل المسيئين (مت5: 44)، "مُؤَدِّبًا بِالْوَدَاعَةِ الْمُقَاوِمِينَ، عَسَى أَنْ يُعْطِيَهُمُ اللهُ تَوْبَةً لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ، فَيَسْتَفِيقُوا مِنْ فَخِّ إِبْلِيسَ إِذْ قَدِ اقْتَنَصَهُمْ لإِرَادَتِهِ" (2تي2: 25-26).
الإنسان الذي تذوّق محبّة المسيح، وحلاوة العشرة العميقة معه، لا يقبل بسهولة أن يتنازل عن هذا المستوى في شركته مع الله، لكي ينزل لمستوى الحديث مع الحيّة، التي دائمًا تتحيّن الفرصة لكي تلدغه لدغتها القاتلة..!
الإنسان المشغول بالله وبخدمته، يؤمن أنّه ساكن في قلب المسيح، ومتحصّن تحت ظلّ جناحيه، لذلك لا يريد أبدًا أن يفقد هذه الحصانة بالنزول لمستوى الاشتباك مع الأشرار والمستهزئين، بل هو يُذكِّر نفسه دائمًا بعبارة:
"لا أقدر أن أنزل"
لا أقدر أن أنزل لمستوى المشاحنات والمجادلات، والمباحثات الغبيّة والسخيفة التي تولِّد الخصومات، فعبد الربّ لا يجب أن يخاصم، بل يكون مترفّقًا بالجميع، صالحًا للتعليم، صبورًا على المشقّات (2تي2: 23-24).
لا أقدر أن أنزل بعيدًا عن حرارة العشرة مع الله في الصلاة والتسبيح والتمتّع بكلام الإنجيل، إلى مهاترات أرضيّة غير بنّاءة.
لا أقدر أن أنزل وأترك كنوز الآباء الثمينة، لكي أتغذّى على نفايات إدانة الناس والسخرية والهزل والسطحيّة.
لا أقدر أن أنزل لمستوى الصراع على المكاسب المادّيّة والكرامات الأرضيّة والألقاب الزائلة، بينما أنا ابن الملك، السعيد في حضنه..
لا أقدر أن أنزل مُهمِلاً عمل الله الهام المطلوب مِنّي تكميله، لكي أستطلِع ما يقوله العابثون وأُفَنِّد عبثهم..
لا أقدر أن أنزل في ساحة العدوّ، تاركًا الأمان في بيت أبي الملك، مُعرّضًا نفسي لغدر هذا الشرّير، إذ أصيرُ في مرمى نيرانه.
لا أقدر أن أنزل على الأرض لمواجهة دبّابات العدوّ، في حين أنّ الله قد أعطاني أن أكون طائرةً تُحَلِّق في السماء، وتسيطر بسلاح الله الكامل (أف6) على كافّة الأجواء..!