لم أعد استريح كثيرا إلى الهجوم على الجامعة العربية والسخرية من دورها فى منطقتنا لاسيما هذه الأيام.. فمن البديهى والمعروف أن الجامعة منذ تاريخ إنشائها ووفقا لميثاق عملها الذى تم تعديله ليجعل القرار بداخلها للأغلبية وليس الإجماع، هى جهة تنفيذية لقرارات الدول العربية وقادتها، وليس من شأنها أن تصدر قرارا ت منفردة. وبرغم أن المشاعر العاطفية الغاضبة من عدوان إسرائيلى لا سقف لجنونه، على الشعب الفلسطينى فى غزة والضفة الغربية وعلى لبنان أرضا وشعبا، مشاعر مشروعة، لكنها غير مجدية فى المشهد الراهن الذى ينطوى على مخاطر تستدعى أكثر بكثير من التذمر والغضب والتهكم والنواح.
توشك الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة بايدن على الرحيل، لذلك تسعى لتحقيق نصر يغطى على فشلها الداخلى والخارجى خلال السنوات الأربع الماضية، وتدعم به مرشحتها الديمقراطية للرئاسة، بالسعى إلى استعادة نفوذها فى منطقتنا، بالتعاون مع حليفها مجرم الحرب نتنياهو، الملاحق جنائيا من محكمة الجنابات الدولية، من أجل بناء عهد جديد فى المنطقة لا دور فيه لدولها!.
ولم تكن الدعوة إلى شرق أوسط جديد قاصرة على كتاب شمعون بريز الذى صدر عام 1992 وبشر فيه بأن أمن المنطقة يستتب بالتعاون الاقتصادي المزدهر بين إسرائيل ودولها، وساق فيه حيثيات لإقناع المجتمع الإسرائيلي بأن إسرائيل تكسب من السلام أكثر مما تجنيه بالحرب. فقد جددت الدعوة إليه إدارة أمريكية سابقة من الحزب الجمهورى بعد غزو العراق واحتلاله فى عهد بوش الابن، بزعم مكافحة الإرهاب، فى اعقاب هجمات سبتمبر 2001. ومكنت إدارة أوباما الديمقراطية من بعده جماعة الإخوان وحلفاءها من تيار الإسلام السياسى من السيطرة على عدد من أنظمة الحكم فى المنطقة، عبر جائحة الربيع العربى بنفس الزعم، فحطمت الدولة الوطنية فى عدد من دول الإقليم، وعززت من الصراع الطائفى والدينى فى أرجائه بنفس المزاعم!.
لكن العودة الأمريكية هذه المرة مختلفة، لا تكتفى بالنفوذ السياسى، بل تأتى مدججة بأحدث الأسلحة وأكثرها تطورا من حاملات الطائرات إلى البوارج البحرية، ومن الغواصات النووية إلى الدفاعات الجوية التى تحمل أكثر الأسلحة فتكا وتدميرا.. فضلا عن أكثر من 30 ألف جندى يحتلون القواعد الأمريكية المتمركزة فى المنطقة. أما الهدف فهو مزدوج: فمن جهة المشاركة مع إسرائيل فى توجيه ضربة إلى إيران، توعد فيها نتنياهو باسقاط نظامها، ومن جهة أخرى دعم المخطط الإسرائيلى الرامى بعد القضاء على البنى التحتية والقدرات العسكرية لحركة حماس وحزب الله وإغتيال قادة الصف الأول من الطرفين، إلى إعادة احتلال غزة بمواصلة تدميرها وإقامة منطقة عازلة واسعة النطاق فى الجنوب اللبنانى.
وفى الوقت الذى تواصل فيه إسرائيل حربها التدميرية فى غزة وتمدها إلى مدن الجنوب اللبنانى، وملاحقة أسلحته وقواته فى بيروت، فهى تسعى لاستصدار قرار من الأمم المتحدة لتعديل مضمون القرار الأممى 1701 امتثالا لرغبة نتنياهو. وجاءت زيارة المبعوث الأمريكى "عاموس هوكشتين" إلى بيروتد، ليس فقط لقطع الطريق على المؤتمر الدولى الذى دعا إليه فى 24 اكتوبر الجارى الرئيس الفرنسى ماكرون لإغاثة الشعب اللبنانى، ودعم جيشه ومؤسسات دولته ووقف الحرب عليه، بل للترويج أيضا لما يسمى اتفاق إطار لوقف الحرب ينطوى على تعديلات للقرار، ينتهى بوضع لبنان تحت الوصاية الأمنية الإسرائيلية واحتلال أجزاء من أرضه، بالإضافة لحث لبنان على إعلان وقف للحرب من جانب واحد، وهو ما رفضه رئيسا البرلمان والحكومة اللبنانيان معا وتمسكا بنص القرار الأممى كما هو.
وجاءت زيارة الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط إلى بيروت فى وقت متقارب مع زيارة المبعوث الأمريكى لتشكل سندا لموقف الحكومة اللبنانية. وفى بيروت طالب أبو الغيط بوقف فورى لإطلاق النار ودعا مجلس الأمن بالإسراع إلى تنفيذ القرار 1701. وفى حواره مع المسئولين اللبنانين حثهم على الإقدام على انتخاب رئيس للجمهورية لملء الفراغات الدستورية، مؤكدا تضامن الجامعة العربية مع لبنان شعبا وحكومة.
وفى هذا المناخ الذى يستهدف بالأساس تصفية القضية الفلسطينية، ويشكل تهديدا باندلاع حرب إقليمية تطول خسائرها دول المنطقة، لا مفر من تحرك عربى موحد تقوده جامعة الدول العربية بمساندة من أعضائها لإعادة طرح مبادرة السلام العربية من جديد على المجتمع الدولى ومساندة التوجه الصينى والروسي ومجموعة دول البريكس والدول الداعمة للقضية الفلسطينية فى سعيها لإحداث توازن فى القرار الدولى، وحشد دعمها للتصدى للتوجه الأمريكى لصنع شرق أوسط جديد بقيادة إسرائيل!