الشعر لم يكن يومًا بعيدًا عن قضايا الأمة، بل كان دائمًا أداة للتعبير عن معاناة الشعوب، وغضبهم، وأملهم في التحرر. وعلى مر التاريخ، كان الشعراء هم الناطقون باسم تلك الشعوب، يحولون الألم إلى كلمات وأبيات تُلهب المشاعر، وتدفع الناس إلى النهضة والتقدم والتحرك. في العصر الحديث، ومع ظهور حركات التحرر الوطنية في مختلف الدول العربية، برز نوع جديد من الشعر، وهو شعر المقاومة.
شعر المقاومة ليس مجرد وسيلة لتوثيق الأحداث التاريخية أو الصراعات السياسية، بل هو سلاح ثقافي واجتماعي يهدف إلى التأثير على الوجدان الجمعي وتحفيز الجماهير. من الجزائر إلى فلسطين، ومن العراق إلى سوريا ولبنان، كان الشعراء العرب في قلب كل معركة، يساهمون بأقلامهم كما يساهم المحاربون بسلاحهم.
يعتبر محمود درويش (1941-2008) واحدًا من أهم شعراء المقاومة في العصر الحديث، ليس فقط على مستوى فلسطين، بل على مستوى العالم العربي بأسره. ولد درويش في قرية البروة في الجليل، وعايش النكبة الفلسطينية عام 1948 حينما تم تهجير عائلته، هذه التجربة المأساوية شكلت وجدانه وأثرت بشكل كبير على مجمل أعماله الشعرية.
كان شعر درويش بمثابة السلاح الذي رفعه في وجه الاحتلال الإسرائيلي، فقد استطاع عبر كلماته أن يصور معاناة الشعب الفلسطيني وآلامهم، كما نجح في تحويل القضية الفلسطينية إلى قضية إنسانية عالمية.
في قصيدته "عابرون في كلام عابر"، يقول درويش:
أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
أنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء.
هذه القصيدة تعكس حالة المقاومة الثابتة التي يرفض فيها الفلسطينيون فكرة الرحيل أو التهجير مرة أخرى، وهي تعبير واضح عن العزيمة والإصرار على البقاء في مواجهة القوة العسكرية الإسرائيلية. من خلال أشعاره، قدم درويش الفلسطيني كرمز عالمي للمقاومة والصمود، وتحولت قصائده إلى نشيد للمقاومة على مدار العقود.
في نفس السياق الفلسطيني، يبرز اسم سميح القاسم (1939-2014) كواحد من أبرز شعراء المقاومة. ولد القاسم في قرية الرامة في الجليل الأعلى، وبدأ في كتابة الشعر منذ نعومة أظافره، إلا أن شعره اكتسب طابعًا نضاليًا حادًا مع تصاعد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
قصيدته الشهيرة "تقدموا" تعكس رفض القاسم للخضوع والخنوع أمام الاحتلال:
تقدموا
تقدموا
كل سماء فوقكم جهنم
وكل أرض تحتكم جهنم
تقدموا
يموت منا الطفل والشيخ
ولا يستسلم.
إن تصوير القاسم للمقاومة يعبر عن الروح الجياشة للشعب الفلسطيني، الذي يرفض الرضوخ مهما كانت الظروف، ويرسم صورة للمقاومة التي تمتد من جيل إلى جيل.
إذا كان محمود درويش هو شاعر المقاومة الفلسطينية، فإن مفدي زكريا (1908-1977) هو بلا شك شاعر الثورة الجزائرية. خلال حرب الاستقلال الجزائرية (1954-1962) ضد الاستعمار الفرنسي، كان شعر زكريا بمثابة المرآة التي عكست معاناة الشعب الجزائري وأحلامه بالحرية.
قصيدته "إلى أمي الجزائر" تُعتبر واحدة من أكثر القصائد تأثيرًا في تاريخ الشعر الثوري العربي. في هذه القصيدة، يمزج زكريا بين الألم الذي تعيشه الجزائر تحت وطأة الاستعمار وبين الأمل في الحرية والاستقلال:
أمي الجزائر لا تبكي
فدموعك طهر سماوي
وأنت من نور الشمس صُغت
ومن أزهار الأمل صنعت
وأنت الأمل الثائر في قلبي.
هذه الأبيات تعكس الألم الذي كانت تعيشه الجزائر خلال فترة الاستعمار، لكنها في الوقت نفسه تحمل رسالة واضحة بالتمسك بالأمل والمقاومة حتى تحقيق النصر.
في العراق، برز اسم مظفر النواب (1934-2022) كواحد من أبرز شعراء المقاومة والغضب. عُرف النواب بأسلوبه الجريء والصريح في مهاجمة الأنظمة الاستبدادية والقوى الاستعمارية، سواء في العراق أو على مستوى الوطن العربي. قصائده لم تكن مجرد تعبير عن المقاومة ضد الاحتلال الأجنبي، بل كانت تحمل في طياتها نقدًا لاذعًا للأنظمة العربية المتواطئة مع الاحتلال.
قصيدته "القدس عروس عروبتكم" هي واحدة من أشهر القصائد التي كتبها النواب، وفيها يهاجم الحكام العرب على تقاعسهم في الدفاع عن القدس وفلسطين:
القدس عروس عروبتكم
فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟
ووقفتم تسترقون السمع وراء الأبواب
لصرخات بكارتها.
هذه الأبيات تحمل في طياتها غضبًا شديدًا من حالة الخذلان العربي، وتجسد حالة الانكسار والخذلان التي يشعر بها المواطن العربي تجاه حكوماته التي لم تقم بما يكفي للدفاع عن قضايا الأمة.
على الرغم من أن نزار قباني (1923-1998) عُرف بشعر الحب والغزل، إلا أنه تحول إلى أحد أبرز أصوات المقاومة بعد هزيمة 1967. في أعقاب النكسة، أصدر قباني قصيدته الشهيرة "هوامش على دفتر النكسة"، التي حملت في طياتها نقدًا حادًا للأنظمة العربية وللواقع العربي المهزوم.
في هذه القصيدة، يعبر قباني عن خيبة أمل الأمة العربية بعد النكسة، ويعري أسباب الهزيمة بأسلوب شعري حاد ومباشر:
إذا خسرنا الحرب
لا غرابة
لأننا ندخلها
بكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابة
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة.
تجسد هذه الأبيات الاستياء العميق من الفشل العربي في مواجهة الاحتلال، وتدعو إلى التفكير الجاد في الأسباب الحقيقية لهذا الفشل، بدلًا من الاستمرار في التصريحات الجوفاء التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
في لبنان، كان شعر المقاومة متجذرًا في الصراع المستمر ضد الاحتلال الإسرائيلي وضد كل أشكال الاستعمار والاعتداءات. يعد حسن عبدالله وخليل حاوي من أبرز الأصوات الشعرية التي شكلت وجهًا أدبيًا للمقاومة اللبنانية.
ولد حسن عبدالله في جنوب لبنان عام 1943، وكبر في بيئة عانت من احتلال إسرائيل لجنوب البلاد. كانت معاناته الشخصية، ومعاناة أهله وجيرانه في الجنوب، مصدر إلهام كبير له في قصائده. كتب عن الأرض الممزقة بالحرب والأمل الذي ينبثق من بين الأنقاض.
في إحدى قصائده الشهيرة التي تعبر عن المقاومة، يقول حسن عبدالله:
"نحن الأحياء على جناح الحريق،
نركض فوق الأرض السوداء
نحمل أقدارنا على أكتافنا،
لا نطلب إلا السماء كي تعانق جروحنا."
هذه الكلمات تكشف عن المقاومة اللبنانية بوصفها فعلًا جماعيًا منبثقًا من صلب الشعب اللبناني الجنوبي، حيث الأرض هي مصدر الهوية والانتماء، والاحتلال هو الجرح الذي لن يشفى إلا بالتحرر.
أما خليل حاوي (1919-1982)، فهو شاعر لبناني من البقاع، اشتهر بتأملاته الفلسفية حول الحياة والموت، النهوض والسقوط، المقاومة والانبعاث. حاوي، الذي عاش خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية، انتحر بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في عام 1982، كنوع من الاحتجاج على الاحتلال والدمار.
قصيدته "الجسر"، التي كتبها قبل رحيله بسنوات، تعكس رؤيته المتشائمة للحياة تحت وطأة الاحتلال والخراب، لكنها أيضًا تحمل في طياتها بعدًا مقاومًا يتمثل في الرغبة بالتغيير والنهضة. يقول فيها:
"أعبروا الجسر إن استطعتم،
أو ارتموا في اليمّ إن شئتم،
إن خلف الجسر يبزغ نور
بعد ظلام الوجوه".
هذه القصيدة تمثل تجسيدًا فلسفيًا لشاعر يرى أن المقاومة هي الجسر بين الظلام والنور، بين الموت والحياة. على الرغم من سوداوية الرؤية، إلا أنها تؤكد أن الانبعاث ممكن حتى بعد الدمار.
لم يكن محمود درويش شاعرًا فلسطينيًا فقط، بل كان أيضًا صوتًا للمقاومة في لبنان، خصوصًا خلال الحروب مع إسرائيل. قصيدته "بيروت"، التي كتبها بعد قصف العاصمة اللبنانية، كانت تجسيدًا للمدينة كرمز للصمود والمقاومة.
في قصيدته "بيروت" يقول درويش:
"بيروت، يدًا ممدودة من جدار إلى جدار
وذاكرة منسية في طيات الكتب.
بيروت، عيون الأمهات في الطرقات،
تصرخ: قد هجرنا السلاح ولم نهجر الحلم."
بيروت في شعر درويش تجسد مقاومة لبنان وشعبه، حيث الأمهات اللاتي يواصلن النضال، وحيث الحلم بالحرية والانتصار ما زال حيًا.
لم يكن الشعراء وحدهم من عبّروا عن المقاومة في لبنان، بل أيضًا المفكرين والأدباء الذين أدركوا أن المقاومة لا تأتي فقط بالسلاح، بل بالكلمة والفكر.
أما أدونيس، الذي يعد واحدًا من أعظم الشعراء والمفكرين في العالم العربي، فقد تناول في شعره وفكره مفهوم المقاومة بطريقة فلسفية عميقة. أدونيس، الذي تعرض لانتقادات بسبب مواقفه السياسية، قدم في شعره مقاومة فكرية ضد الظلم والفساد والاستبداد.
يقول أدونيس في قصيدته "مفاتيح الرماد":
"ليس الوطن فكرة مؤجلة،
بل هو رماد ونار،
والمقاومة تبدأ من العقل،
ثم تنبعث في الساحة."
من خلال هذه الأبيات، يدعو أدونيس إلى نوع من المقاومة التي تتجاوز الصراع العسكري، لتشمل الفكر والثقافة، ويعتبر أن المقاومة تبدأ من تحرير العقل من قيود الاستبداد والجهل.
في مصر، يعتبر أمل دنقل (1940-1983) واحدًا من أهم شعراء المقاومة، وخاصة في مرحلة ما بعد نكسة 1967. في هذه الفترة، كان دنقل يعبر عن حالة الإحباط والغضب التي سيطرت على المجتمع المصري والعربي بسبب الهزيمة. ومع ذلك، كانت قصائده دائمًا تحمل بين طياتها دعوة صريحة لرفض الاستسلام.
قصيدته الشهيرة "لا تصالح"، التي كتبها بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، تعبر عن موقفه الرافض لأي نوع من التطبيع مع العدو:
"لا تصالح
ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟
هي أشياء لا تشترى."
هذه الأبيات تعكس موقف دنقل الصارم من الخضوع والتفاوض مع العدو، وهي تعبير عن الرفض المطلق للاستسلام لأي ضغوطات دولية أو محاولات لإضعاف المقاومة العربية.
أما فاروق جويدة، فهو الآخر استطاع أن يجمع بين الحب والمقاومة في شعره. قصائده الوطنية تمثل دعوة للأمل والمقاومة، وقد كتب الكثير عن فلسطين والقدس.
في قصيدته "القدس"، يقول جويدة:
"القدس عروس تنتظر،
بين جدارين… والقمر،
أسير بين شهيد وشهيد،
أبحث عن حلمي العنيد."
في هذه الأبيات، يعبر جويدة عن الحلم العربي بالتحرر، وعن القدس كرمز للعزة والكرامة.
شعر المقاومة في الوطن العربي، سواء في فلسطين أو لبنان أو الجزائر أو مصر، هو تجسيد لروح الصمود والإصرار على الحرية. إن هذا النوع من الشعر لا يقتصر على وصف المعارك أو الحروب، بل هو تعبير عن إرادة الشعوب في التحرر من الاحتلال والظلم.
في جميع أنحاء العالم العربي، استمر الشعراء في توثيق نضالات شعوبهم ضد القوى الاستعمارية والأنظمة القمعية. من محمود درويش في فلسطين إلى أمل دنقل في مصر، ومن مفدي زكريا في الجزائر إلى خليل حاوي في لبنان، كانت الكلمة دائمًا أقوى من السلاح في بعض الأحيان، واستطاعت أن تبقى صامدة حتى في أحلك الظروف.
إن شعر المقاومة هو ذاكرة الشعوب التي تأبى النسيان، وهو الأمل الذي يتجدد في كل جيل، حتى يحقق العرب حلمهم بالتحرر والانتصار.