قبل أن يجتاحنا التوكتوك ذلك الكائن الحديدي الصغير القبيح ويصبح عنوانًا للعصر، كان هناك زمن "الميكروباص" الجميل فقط لأنه أقل بؤسًا وعشوائية وانحطاطًا.
في زمن الميكروباص كانت مصر تبدو محشورة، فالسائق يتجاوز حمولته "١٤مقعدًا" ويجبر الركاب على استيعاب راكبين أو ثلاثة.
مع ذلك كانت هناك مساحة للتنفس والجلوس براحة نسبية، الميكروباص حالة مُصغرة من العالم الخارجى، تستقله فئات متعددة من الطبقة الفقيرة إلى المتوسطة، وغالبًا تقضى رحلتك فى الاستماع إلى ما يختاره السائق سواء من أغان أو شرائط دينية.
وهنا تختلف وتتنوع الأذواق بحسب نوع ثقافة السائق وما إذا كان من أبناء أحيائنا الشعبية القديمة التقليدية أو من أبناء المناطق العشوائية الحديثة نسبيًا وقتها.
من أحمد عدوية وحسن الأسمر وعبده الإسكندراني وحكيم إلى عبد الباسط حمودة وشعبان عبد الرحيم وصولًا إلى أسماء غير معلومة لأغلب جمهور الميكروباص؛ لأنها تقدم الفن الهابط فى أوضح صورة.
وكما تتعدد الأصوات والموسيقى الشعبية تنوعت أيضًا شرائط الوعظ الديني، من الشعراوي إلى يعقوب وحسان وصولًا إلى الحويني.
بعض المطربين وبعض الشيوخ كانوا يثيرون جدلًا بين الركاب ومن بينهم من عرفوا بمطربى أو شيوخ الميكروباص خاصة أولئك الذين اشتهروا بين جمهور الركاب إما بالموسيقى الصاخبة المبتذلة أو الأداء المسرحي الذى لا يخلو من عبارات هابطة وأحيانًا جارحة بالنسبة لبعض الشيوخ.
فـي المجمل كان هناك ما تتفق معه ويروق لك تمامًا كما كان هناك مساحة لما ترفضه وتختلف معه.
زمن الميكروباص لم يكن أفضل شيء بالمقارنة لما سبقه من أزمنة وعهود، ومع ذلك لم يخلو الإعلام ولم تخلو الثقافة من معارك فكرية جادة تنطلق بين الحين والحين.
وكانت هناك برامج وصحف وإذاعات تُلبي معظم احتياجاتك كمستهلك للإعلام تسعى إلى المعلومة أو التحليل أو حتى الترفيه والتسلية.
وحتى المشتغلين بالسياسة كان لديهم ما يقدمونه لتتفق معه أو تعارضه وتطلب تحسينه أو ترفضه بالجملة؛ وبنفس مساحة التنفس فى عربة الميكروباص كانت هناك مساحة الاتفاق والاختلاف.
لم يكن الميكروباص الزمن الذي نحب العيش فيه لكننا وعلى أية حال أبنائه، ورغم كل شىء كانت هناك دائمًا فرصة للتطور ومع ذلك رفضناه بكل حرية وقوة.
أما هذا الكائن الحديدى الصغير القبيح الشهير بـ"التوكتوك" فكما يقول المثل المصرى "دعت عليه أمه من قدر له أن يكون أحد ركابه".
بالكاد تكفى هذه العربة القبيحة أربع أفراد، السائق وإلى جواره راكب ومن وراءه راكبان؛ ومع ذلك يصر السائق دائمًا أن تتسع عربته إلى خمسة ركاب إثنان إلى جواره وثلاثة من ورائه.
الكل مضطر لهذا الوضع الخانق حتى يدفع أجرة قدرها ٥ أو ١٠ جنيهات فإن قل العدد اضطر لدفع أجرة أعلى؛ فالسائق هو المتحكم الوحيد ودائمًا ما يلجأ إلى رفع الأسعار على فترات محدودة ولا مجال لمناقشته فيكفى صوته الخشن الدال على عنف وتوحش صاحبه تشعر وكأنه أشهر مطواة أو سكينًا فى وجهك.
ملحوظة.. جميع ركاب التوكتوك من المصنفين تحت خط الفقر، أو الذين أصبحوا فقراء حديثًا.
رغم أن التوكتوك مشرع بلا نوافذ إلا أن الهواء يرتطم به من كل ناحية ومع ذلك تبدو مصر مخنوقة داخل هذا الكائن القبيح.
أنت لا تستطيع مناقشة الرفع المتكرر للأجرة، ولا حتى الاعتراض على الأصوات العالية الصادرة من السماعات، إنها ليست لمطربي زمن الميكروباص الجميل ولا حتى لشيوخ الصياح؛ إنها لشيء لا تسمية له فى الواقع؛ هى ليست موسيقى ولا إيقاع ولا غناء ولو فسرت كلمة أو كلمتين فلن يخرج عن التأديب والوعيد أو اسم أحد الأسلحة البيضاء أو اسم مادة مخدرة.
مجرد الاعتراض يعنى ببساطة الطرد من جنة التوكتوك الذى أعدها السائق الفاقد لكل مهارات التواصل مع البشر.
داخل التوكتوك لا شىء توافق عليه أو تختلف معه أو حتى ترفضه وأنت موجود فقط لأنه وسيلتك الوحيدة لاجتياز شوارع وحوارى هى فى أقل وصف مهذب لها غير معبدة وغابت عنها عيون المسئولين المحليين فى الأحياء.
التوكتوك دنيا مصغرة للعالم الخارجى، فهو عنوان لعصر غاب فيه الفن الراقى والهابط معًا، بل أن بعض مطربى وشيوخ الميكروباص يمثلون الآن كلاسكيات أبناء هذا الجيل؛ وكما أنه لا شىء داخل التوكتوك لا شيء أيضًا خارجه.
للأسف أبضايات المهرجانات أصبحوا عنوانًا لنجوم الفن، وساحة المعارك الثقافية والفكرية والسياسية أصبحت خلاء لا تسمع فيها حتى صوت صرصور الحقل.
المشتغلون بالسياسة لا يقدمون ما تتوافق معه أو تختلف أو حتى يستحق الرفض.
فى زمن الميكروباص اتفق هواة الفن الهابط والخطاب الثقافى الرفيع على أن مقاومة المحتل حق أصيل لا مجال لمناقشته.
وفى عصر التوكتوك صار عندنا مثقفى المهرجانات يلقبون بالمفكرين والسياسيين فقط لأنهم يرفضون مقاومة المحتل بدعوى عدم الجدوى ويخونون كل داعم للمقاومة بزعم أنها خطر يهدد بتفكيك الدول.
فى زمن الميكروباص لم نسمع من يردد دعاية الصهاينة؛ وفى عصر التوكتوك صال وجال فى بعض الفضائيات من يكرر على مسامعنا خطابات نتنياهو والإعلام العبري.