غرس عدد كبير من المخرجين رسالة ثابتة في عشرات الأفلام، وهي أن الفقر حشمة وأن المال في حد ذاته أصل كل الشرور، هذه الأفلام التي شاهدناها بل وحفظناها من كثرة تكرار عرضها، تمدح الفقر بفجاجة كأنه هدف وغاية ورسالة، لدرجة أن إسماعيل يس يغني في فيلم "صاحبة العصمة" بطولته مع تحية كاريوكا قائلًا: “الفقر جميل وأنا إنسان طول عمره الفقر مهنيني... اللهم افقرني كمان، اللهم أغني عدويَّ... اللهم آمين واجعلنا عدوين”.
ناكده عالٍ أوي، أنا كده مرتاح، ولا عمري رأيت ورقة بمئة.
وبنام والباب من غير مفتاح، وأتحدى جميع الحرامية.
ولا الشراب يخسر أخلاقي... راح أجيبه منين وأنا مش لاقي.
ولا ثروة تزود أعدائي... وفي 60 داهية توديني.
اللهم افقرني كمان... اللهم أغني عدويَّ".
فيرد عليه الموسيقيون: “اللهم آمين. واجعلنا عدوين”.
طبعا، رد الفرقة أكثر مصداقية وواقعية، وقدم سخرية رائعة ممن يعتبر أن الفقر جميل، وعلى منوال هذا المدح الممجوج للفقر، نجد أفلامًا لا تُحصى تصر علي هذا المعني، منها فيلم "مليون جنيه" لنعيمة عاكف وشكري سرحان، قصة وإخراج حسين فوزي، حيث تدمر الثروة حياة أربعة نماذج درامية: ينتحر الثري محمود المليجي، ويسجن الفكهانيعبد الفتاح القصري" بعد أن يقتل زوجته ويدعو الله في سجنه أن يفقره، وتنزلق حياة مضيفة الطيران سميرة أحمد إلى المفاسد والشرور، كما تفقد زينات صدقي عقلها وتدخل مستشفى المجانين لأنها صارت مهووسة بسباق الخيل.
هكذا، لا يوجد نموذج واحد استثمر أمواله بشكل صحيح، وحتى بطلة الفيلم اعتبرت التخلص من الأموال بتقديمها لجمعية خيرية أفضل وسيلة للنجاة من شرورها. وعلى غرار إسماعيل يس، تغني نعيمة عاكف وشكوكو أغنية بعنوان "فقر وفقرين"
وتقول فيها "يالطيف يالطيف، ده الفقر بتاعنا ظريف ولطيف، والكنز قناعة.
الأرض بساط مفروش لينا، والسماء بنجومها كمان زينة.
والبحر بحاله بيسقينا، فين الفقر ده يا أخينا".
ورغم ردود شكوكو عليها بأنه رغم هذه "الأملاك"، نفسه في حتة بسبوسة، تلجأ نعيمة للدين، فالله هو الذي خلق الناس زي السلم درجات وطبقات، ويرد شكوكو: “وأمرنا نترقى ونتقدم”، لكن يبقى التجسيد الدرامي الذي قدمه الفيلم لضحايا الغنى أقوى في الوجدان من ردود شكوكو.
وكما ذكرت، لا يمكن رصد كل هذه الأفلام الممجدة للفقر والداعية له، وكأن الذين كتبوا سيناريوهاتها من الرهبان والنساك والزاهدين والمتصوفين. ومع ذلك، لابد أن أشير إلى فيلم "لو كنت غني" لبشارة واكيم وعبد الفتاح القصري، هذا الحلاق الذي ورث الشحاذ فتدمرت حياته، حيث غرقت أسرته في المفاسد وعاد فقيرًا ليمدح الفقر ويردد أن الفقر حشمة.
وقد يكون مفهوم هذا الدس المتكرر في تلك الأفلام لمحبة الفقر والتخويف المرعب من شر الأموال هو لزرع الخنوع والخضوع وقتل الحلم الذي قد يتحول إلى ثورة من الفقراء ضد الأوضاع المزرية، ولكن غير المفهوم في أيامنا أن تجد قطاعًا كبيرًا من رجال الدين، شيوخًا وأساقفة، يعظون عن الفقر والزهد والصوم والتقشف، مقدمين أمثالًا من الأنبياء والأولياء والقديسين الذين لا يقتدون هم بهم، فحياتهم مستفزة لأبعد درجة، وأقرب إلى نجوم وصناع تلك الأفلام القديمة الذي من المؤكد لم يكونوا فقراء.
وهذا أمر واضح جدًا في حياة الأساقفة الذين هم في الأصل رهبان تركوا الحياة المريحة وراءهم على مبدأ أساسي في الرهبنة، وهو "الفقر الاختياري"، أي أنهم اختاروا الفقر بإرادتهم وتركوا أموالهم وأعمالهم.
ومع ذلك، لا تجد أثرًا لهذا الفقر في أديرتهم وأجهزتهم المحمولة وسكنهم وسياراتهم. وإذا فتح عليهم الفتاح فرُسموا أساقفة، تحولوا إلى سادة يسكنون في مقرات أقرب إلى القصور ويسافرون للعلاج في الخارج ويتحركون بسيارات فارهة، ثم يعودون لقصص لعنة الأموال... أفلام أفلام.
إفيه قبل الوداع:
الفقر مش عيب (أكثر من فيلم).
تكذب ولا تتجمل.