ولدت القديسة تريزا الطفل يسوع، في بلدة إلنسون Alencon بمقاطعة نورماندي بفرنسا سنة ١٨٧٣، من والدين تقيين هما لويس وزيلي مارتان، وهي التاسعة بين أبنائها.
ونالت سر العماد في عام ١٨٧٣، وذلك في احتفال عائلي كبير بكنيسة البلدة ودعيت بإسم "ماري فرنسواز تريز"، وحين بلغت الخامسة عشرة من عمرها، انتسبت إلى دير سيدة الكرمل في ليزيو Lisieux، حيث كانت قد سبقتها إليه ثلاثة من أخواتها.
توفيت في سنة ١٨٩٧، شغوفة بحب المسيح مبتلاه بداء السل الرئوي .
بطولة طريق القداسة
في مستهل حياتها، كانت تعتبر بحماس بأن سبيل القداسة يستوجب "قهر الذات"، إلا أنها حين بلغت الثانية والعشرين من عمرها، بدّلت من تفكيرها وأيقنت بأن القداسة ترتكز على إتقان ممارسة الأعمال اليومية الوضيعة التي يوجبها علينا واقع حياتنا الراهنة.
عاشت بطولة "طريق البساطة الروحية" فارتقت في غضون سنوات قليلة إلى قمم مدهشة من الإيمان والرجاء. وفي غياهب الظلمات التي اجتازتها، عرفت كيف تظل أمينة للمسيح ، بالرغم من المحن الروحية والأدبية والصحية، وثابرت على الإمتثال لتوجيهات أخواتها الراهبات، فيما يتعلَّق بالمتطلبات الرسولية للكنيسة. هذا هو "طريق البساطة" إلى القداسة المرتجاة، أعادتها إلى الأذهان تريزا الطفل يسوع فَتَكنَّتْ بـ"تريزا الصغيرة" أو "زهرة يسوع الصغيرة".
شعار زهرة يسوع الصغيرة
لقد كان شعارها الدائم قول يسوع: "إن لم تعودوا كالأطفال لن تدخلوا ملكوت السماوات" (متى ١٨: ٣).، فعاشت الطفولة الروحية وشهدت لها، لذلك كانت تقول: "سوف أبقى أبداً طفلةً إبنة سنتين أمامه تعالى كي يضاعف إهتمامه بي.. فالطفل يرتضي بصغره وضعفه ويقبل أن يكون بحاجة إلى المعونة.. سأتوكَّل على الله أبي في كلِّ شيء وأطلب إليه كلَّ شيء وأرجو منه كلَّ شيء.
سأترك له الماضي مع ما فيه من المتاعب والمآثم ليغفرها.. وسأقبل الحاضر والمستقبل منه مسبقاً كما تشاء يده الحنون أن تنسجها لي.. إنَّ كلَّ شيء يؤول في النهاية إلى خلاصي وسعادتي ومجده تعالى.. الله يعلم كلَّ شيء، وهو قادرٌ على كلِّ شيء.. ويُحبني.. سوف أبقى أبداً طفلةً أمامه وأحاول دومًا أن أرتفع إليه بالرغم من ضعفي ووهني.. الطفل الصغير يستطيع المرور بكلِّ مكان لصغره.. كم أتوق إلى السماء، حيث نحبُّ يسوع دون تحفظ أو حدود.. في قلب يسوع سأكون دومًا سعيدة.. الشيء الوحيد الذي أرغب في أن تطلبه نفسي هو نعمة حبِّ يسوع وأن أجعل، قدر إمكاني، كلَّ إنسان يحبه.. إنّ أصغر لحظة حب خالص، لأكثر فائدة لها، من جميع ما عداها من نشاطات مجتمعة".
رغبة تريزا الصغيرة
إن ما يميِّز دعوة تريزا الصغيرة إلى القداسة هو رغبتها السريعة في تحقيقها، رغم إدراكها لحقيقة الضعف المتأصلة في الإنسان، فكانت تقول: "لا بدَّ لي من أن أقبل واقعي كما هو، بكلِّ ما فيه من نواقص. إني أريد أن أذهب إلى السماء، سالكةً طريقًا مستقيمة وقصيرة المدى، طريقًا صغيرة وجديدة. فنحن في عصر الاختراعات، ولم يَعُد ضروريًا أن نتسلَّق الدَرَج درجة درجة.. هناك المِصعَد! أنا أريد أن أجد مصعداً يرفعني إلى يسوع، فأنا أصغر من أن أتسلَّق سلّم الكمال، وهي سلّم شاقة".
ولكن، ما هو المِصعَد في نظر صغيرتنا القديسة تريزا؟ الطبيعة أم الكتب المقدَّسة؟ أم كلاهما معًا؟
لقد وجدت القدّيسة تريزا في تأملها الكتب المقدسة "ما كانت تسعى إليه". فكانت تعتبر أن كلمة الله هي دائمًا واقعية، بشكل أن تكون موّجهة إلينا مباشرة، وشخصيًّا، ولقد كانت باستمرار "موضوع أشواقها". وكم كانت الطبيعة أيضًا مصدر إطلالة حبِّ الله عليها، حتى أكثرت من الاستعارات والتشابيه المستمّدة من الطبيعة كالورود والطيور والشمس والعاصفة والمطر والضباب.
قبول الآخر بالحُبّ
لم تتردَّد تريزا الصغيرة مطلقًا أن تظهر في سيرتها نقائصها التي كان يسوع ساهراً على تجاوزها، لذلك "لا تجد صعوبةً في النهوض عندما تكبو"، على حدِّ قولها. فحين يكتشف الإنسان ضعفه، تقول زهرة يسوع: "يتحمَّل نقائص الغير، ولا تصدمه مواطن الضعف فيه". فلا يكفي أن نقول أننا نحبُّ الآخرين، "بل علينا أن نقيم الدليل على هذا الحب".
لم تتأخر تريزا في إظهار عفويتها، ومواقفها المرحة، فكانت تذكر مثلاً أن أمها كانت تنعتها بالـ"عفريته"، وأنها حين كانت تمازح أباها تتمنى له أن يموت لكي يذهب إلى السماء. وعندما تهددها الوالدة بأنها ستذهب إلى جهنم حين لا تكون "عاقلة"، تردُّ عليها أنها سوف تتعلّق بها لتذهب معها إلى السماء، "إذ كيف يمكن للرب، تقول تريزا لها، أن يُبعدني؟ ألا تضميني إلى ذراعيكِ بشدة". كأنها كانت على قناعة أن الله "لن يستطيع حيالها شيئًا" طالما هي بين ذراعي الأم التي هي بدورها، تصف صغيرتها، أنها، رغم صراحتها وشفافيتها و"قلبها الذهبي"، "طائشة"، "عنادها لا يقهر.. عندما تقول: "لا"، لا يمكن لأي شيءٍ أن يُزعزعها".
وتحتار الأم حول مستقبلها وتتساءل عنها "ماذا ستكون"؟.
ليتكِ علمتِ أيتها الأم الفاضلة التي قدَّمَتْ للكرمل أربع زهرات من بناتها، أن الصغيرة منهن ستكون قديسة!
التفرغ للصلاة من أجل توبة الخطأة
سنة ١٨٨٦، بلغت تريزا الرابعة عشرة من عمرها وعلمت، من الصحف، الحكم بالإعدام على المجرم برانزيني، الذي كان يرفض رفضًا باتًا أن يلتقي الكاهن، قبل تنفيذ الحكم عليه، فدأبت تيريزيا، بكلِّ ضراعة على الصلاة ليلَ نهار، لتلتمس خلاص نفس هذا المجرم. وفي أول سبتمبر عَلِمتْ من صحيفة "لاكروا "La Croix بأن هذا المجرم، قبل أن يُنفَّذ حكم الإعدام به، أخذ الصليب من يد الكاهن وقبَّله، وتبيَّنَتْ بذلك إشارةً من الله الذي لا يُخيِّب ملتمس من يعتمد عليه تعالى، كما ترسَّختْ في نفسها الدعوة إلى تكريس الذات للتفرغ والصلاة، التي أحست بها ليلة عيد الميلاد سنة ١٨٨٦.
لقد فهَّم جيدًا البابا بيوس الحادي عشر أهمية طريق تريزا الطفل يسوع المبسطة إلى القداسة، فأعلنها منذ عام ١٩٢٥ قديسة، ثم جعلها شفيعة للمرسلين في العالم.
وفي اليوبيل المئوي لوفاتها سنة ١٩٩٧ وضعها قداسة البابا القديس يوحنا بولس الثاني في مصف معلمي المسكونة بإعلانها "معلمة الكنيسة الجامعة" رافعًا إياها إلى مرتبة أعاظم القديسين، هي التي كانت تعتز بصغرها وضِعة شأنها.
هذه القديسة الصغيرة، الكبيرة، التي تزين أيقونتها المقدّسة عددًا وافرًا من كنائسنا، تستقطب في أيامنا جماعات المؤمنين، يلتمسون شفاعتها في الحالات اليائسة المستعصية، الشفاء من الأمراض الخطيرة التي استعصت على الطب، عودة الخطأة المدمنين إلى التوبة، تهدئة أذهان أناس معرضين للشك واليأس، حماية المسيحيين المضطهدين الذين تحيط بهم الأخطار، راحة لأنفس الذين رقدوا محرومين من إسعافات الكنيسة. فالنعم التي ننالها بشفاعتها كثيرة لا عدَّ لها ومثبتة. فلنبادر إليها نحن أيضًا بطلباتنا وهي تعرف كيف تشفع لنا لدى الرب الذي أخلصت له في كلِّ شيء وفي كلَّ لحظة من حياتها.