عندما كفر المحفل الماسونى على الكسار لتقديمه شخصية «عمرو بن العاص»
الدكتور محمد أمين: الأزهر لم يمنع المسرحية وعرضت شهرا كاملا
الهجوم كان لتخصص الكسار فى الأدوار الكوميدية الصدام الفنى الأكبر كان مع يوسف وهبى وممتد للحسين شهيدًا
فى يوم الأربعاء 30 ديسمبر 1931، نشرت جريدة “التاج المصري” استهجانا ضد الفنان على الكسار واتهمته بأنه يزعم أنه يقدم شخصية الصحابى عمرو بن العاص بشكل لا يليق وجاء العنوان يقول “عمرو بن العاص فى المسارح الهزلية “ وكتبت الجريدة تقول (اطلعنا على إعلان عن رواية يمثلها على الكسار فى مسرحه وحشر فيها فاتح مصر الصحابى المعروف عمرو بن العاص رضى الله عنه وقد دهشنا أن وصل الأمر بالكسار لتسلية النظارة أن يدخل فى رواية هذا الصحابى الجليل ومهما بلغ احترام الكسار لعمرو ومهما كان موقف عمرو فى الرواية ومهما كانت محافظة المؤلف عليه من أن يدعم السخرية على المسرح. فإن ذكر اسمه رضى الله عنه فى رواية لتسلية الجمهور لا يصح أن يكون محافظة على كرامة صحابى جليل وفاتح كبير له خطورته ومقامه ومنزلته فى قلوب الشرقيين على اختلاف أديانهم.
تستطرد التاج قائلة: والذى نعلمه من احترام الفرنسيين الذين طبعوا على المرح والتفكه أنهم لم يتعرضوا لكبار قادتهم ورجال الدين منهم ممن فى منزلة عمرو بن العاص كتعرض الكسار ولم يقيموا شخصياتهم مقام التسلية ولا ريب عندنا أن عمرو الصحابى قبل أن يكون فاتحا يدعو الكسار أو مؤلف الرواية إلى أن يدع هذه الشخصية آمنة محترمة مطمئنة، جريدة "التاج المصري" كانت جريدة ماسونية تصدر فى طنطا برئاسة تحرير محمد زكى يوسف وأحمد لطفى صالح، وكانت تعكس مبادئ الماسونية فى تلك الفترة، كانت أقرب إلى الجمعيات الخيرية وكان عدد من المشاهير المصريين ينتمون للماسونية منهم جمال الدين الأفغانى وسعد زغلول وغيرهما بل وكتب فيها سيد قطب قبل انتمائه للإخوان وبثه الإرهاب مقالا بعنوان "لماذا صرت ماسونيًا؟" فى عام ١٩٤٣. فى هذا المقال، عبّر قطب عن اهتمامه بالماسونية واعتبرها وسيلة لتحقيق المثالية الإنسانية من خلال العمل الخيرى والروحانية. ولم تحظ الجريدة بدراسات متخصصة ذات شأن فلم تذكرها الدكتورة عواطف عبد الرحمن فى كتابها عن تاريخ الصحافة فى مصر، ورغم أن الدكتورة سهام نصار قد أفردت فصلا عن الصحافة الماسونية فى كتابها عن "موقف الصحافة المصرية من الصهيونية" لم تذكر من بينها التاج المصرى وأيضا تجاهلتها كتب تحدثت عن الماسونية فى مصر ومنها "الحركات السرية" لمحمد عبد الله عنان وغيرها. وقد تم ربط الماسونية بالصهيونية فى فترة لاحقة بعد حرب ١٩٤٨، أما دفاع الصحيفة عن عمرو بن العاص فنبع من رفضها لهزلية الكسار بالأساس. وعرضت المسرحية يوم ٢٤ ديسمبر ١٩٣١ وهى من تأليف أحمد زكى السيد ومحمد زكى إبراهيم وكانت بطولة الكسار وحامد مرسى وعقيلة راتب ومحمد سعيد وفؤاد الجزيرلي.
وللبحث عن هذه المعركة المجهولة فى التاريخ الفنى للكسار ذهبنا للباحث الكبير الدكتور محمد أمين عبد الصمد لمعرفة خلفيات الواقعة..
■ فى البداية هذه فرصة لنقدم للقارئ لمحة عن الكسار ومسرحه؟
على الكسار رمز مهم من رموز العمل المسرحى المصرى ظهر وبزغ دوره الكبير فى النصف الأول من القرن العشرين من خلال مسرح اعتمد فيه على تقديم شخصية نمطية فى مسرحيات متعددة، وهى شخصية عثمان عبد الباسط، الشخصية الطيبة الساذجة التى تصطدم بتصاريف الحياة وما ينقذه ويحفظه ويحقق أهدافه هى طيبته وطبيعته الخيرة، واختار الكسار لتلك الشخصية زيًا أقرب إلى زى الأراجوز واختار التحدث باللهجة المصرية بلكنة أبناء النوبة، وكان فى مرحلة ما قد اختبر تلك الشخصيات وعايشها خلال تجربة عمله كمساعد طباخ ثم كطباخ لعدة سنوات فى شبابه الأول، واختار الكسار اسمه الفنى نسبًا لأسرة والدته، فاسمه الحقيقى هو على خليل سالم وتسمى باسم أسرة والدته زينب على الكسار تعبيرًا عن حبه لها وامتنانه وتقديرًا لدورها فى دعمه.
وكان لقبه الفنى الذى أكد عليه فى تقديم نفسه ومسرحياته وأعماله هو بربرى مصر الوحيد تمييزًا له عن الغير، واستخدم التعريف الدارج المنتشر فى المجتمع لتلك الشخصيات.
وكان يقدم الفواصل الكوميدية بعد عرض الشرائط السينمائية فى تياترو فيوليت وسينما ايديال بشارع عماد الدين.
وكانت البداية القوية له فى شارع عماد الدين حيث كان يوجد كازينو دى بارى لصاحبته مدام مارسيل، والذى كان يقدم به إسكيتشات كوميدية باللغات الثلاث: العربية والإنجليزية والفرنسية، وبرع الكسار فى تقديم المسرحية المضحكة العربية ذاع صيته مع شريكه مصطفى أمين وكانت أول فرقة مسرحية تدخل شارع عماد الدين فى ١٦/٢/١٩١٧ تحمل اسمه معه، بعد أن كان اسمها فرقة الأوبريت الشرقي.
وبداية من ٦ يناير ١٩١٩ بدأ الكسار يقدم عروضه على مسرح الماجستيك وبدأ بمسرحية ليلة ١٤ واستمرت عروض الفرقة بنجاح كبير، وكون فرقة وكان شريكه فى الفرقة الكاتب والمترجم أمين صدقى يقوم بالترجمة والتمصير عن المسرحيات العالمية خاصة الفرنسية وكان يعرض على منها وكان الكسار يضفى على العمل الطابع الشعبى المصرى باختياره لطريقة أداء الشخصيات وتنميطها من الحياة الشعبية.
ومن الأسماء الكبيرة التى انضمت لفرقة الكسار: محمد بهيج وبشارة واكيم وعبدالعزيز أحمد، وشلبى فودة، عبدالحميد زكي، زكى إبراهيم، وحامد مرسى، راقية رشدي، والملحنون سيد درويش، زكريا أحمد، وكامل الخلعي، وداود حسني، ابراهيم فوزي، سيد مصطفى، عزت الجاهلي، محمد حسن الشجاعي.
ومما يذكر لعلى الكسار أنه قدم الموسيقار خالد الذكر الشيخ السيد درويش فى ١١ عملًا له. بدايو من عام ١٩١٩ حتى ١٩٢٣ وكانت آخر أعماله مع الكسار والذى لم يكمله وتوفى أثناء تلحينه هو أوبريت (الانتخابات).
واكتشف الكسار للحياة الفنية المصرية وقدم الشيخ زكريا أحمد الملحن الكبير وصاحب المشروع الموسيقى شديد الخصوصية والشرقية. وليكون (الحبة) التالية فى عقد الموسيقى المصرية بعد وفاة السيد درويش.
وشكل الكسار مع الريحانى فرسى رهان للمسرح الكوميدى المصرى طوال فترة طويلة من الزمن، وكان تنافسهما بابًا للإنتاج والإجادة، ومثل كل منهما نمطًا متميزًا معبرًا عن طبقة معينة، فالكسار معبرًا عن الطبقة الشعبية والريحانى – بعد هجره لشخصية كشكش بيه - معبرًا عن الطبقة الوسطى فى شريحتيها الثالثة والثانية.
وكانت أسماء مسرحياتهما أخذًا وردًا بينهما وكأنهما فى (قافية) وهو شكل من أشكال الدعاية حرصا عليه، والملاحظ أن المشروع المسرحى لعلى الكسار تأثر بشدة بعد وفاة الريحانى وكأن المشروعين مرتبطين ببعضهما البعض، وكانا محفزين لبعضهما، كما أن تغير السياق الاجتماعى كان له الأثر الكبير فى التأثير على مشروعهما المسرحي.
وتنوعت أعمال على الكسار الفنية بين المسرح الذى تخطى الـ ١٦٠ عرضًا، والسينما حيث وصلت أفلامه إلى ٣٨ فيلمًا تقريبًا، من بينها «سلفنى ٣ جنيه»، «على بابا والأربعين حرامى»، «بواب العمارة»، «نور الدين والبحارة الثلاثة»، «التلجراف»، «الساعة سبعة».
■ ما هى أجواء وكواليس مسرحية عمرو بن العاص وما قصتها، خاصة أننا لا نعرف قيام الكسار بتقديم شخصيات تاريخية فى مسرحه؟
اشتهر على الكسار بتقديم المسرحيات الكوميدية وكان أغلبها تمصيرًا أو اقتباسًا من المسرح الفرنسي، وكانت الشخصية المحورية التى أصر الكسار على التمسك بها وتقديمها على مدار سنوات هى شخصية عثمان عبد الباسط البربرى الطيب، ورغم محاولة البعض استنساخ هذه الشخصية إلا أن النجاح كان حليفًا لعلى الكسار، مثل محاولة فوزى منيب والذى حاول محاكاة شخصية الكسار الفنية، وجدير بالذكر أيضًا أن تلك الفترة كانت محل تقديم مسرحيات مأخوذة من التاريخ العربى أو حتى التاريخ الأوروبى تأثرًا بالترجمات عن المسرح الأوروبي، ونجد أن قائمة أعمال الكسار لا تفتقد شخصيات من التراث الأدبى مثل شخصية جحا، وتلك الشخصيات ملائمة لتقديمها بشكل كوميدي، وهو ما تخصص ونبغ فيه على الكسار، ولم يقم الكسار بتقديم مسرحيات مستلهمة من التاريخين العربى أو الأوروبي، لكن نجد أنه بتاريخ ٢٤ ديسمبر عام ١٩٣١م إعلان افتتاح الكسار العرض الأول لمسرحية بعنوان (عمرو بن العاص فاتح مصر) وهى من تأليف أحمد زكى السيد وزكى إبراهيم، وما نجده أن العرض لم يُمنع وإن لاقى استهجانا من البعض على اعتبار – من وجهة نظرهم- أن شخصية عمرو ابن العاص شخصية لأحد الصحابة وله مقامه كقائد كبير شارك فى الفتوحات الإسلامية ودرة مشاركاته كان فتح مصر والتى تولى ولايتها بمجرد فتحها، وهو ما لا يليق تقديمه فى إطار مسرحية كوميدية تقدمها إحدى الفرق التى اشتهرت بتقديم الكوميديا مما يعد مساسًا بالشخصية التاريخية، ولكن لم نجد إيقافًا للعرض وما يلفت النظر أيضًا أن افتتاح المسرحية كان فى آخر ديسمبر ١٩٣١ من بطولة: على الكسار وحامد مرسى وعقيلة راتب وزكى إبراهيم وإبراهيم الجزار وفؤاد الجزايرلى وسيد مصطفى وزكى إبراهيم. ووردت أخبار وتنويهات عن تلك المسرحية فى جريدة المقطم بتاريخ ٨ ديسمبر و١٠ ديسمبر و٢٥ ديسمبر ١٩٣١، كما ورد تنويه عنها فى مجلة المصور بتاريخ ١٨ يناير ١٩٣٢ أى أن المسرحية استمرت ما يقارب شهرًا كاملًا، وهى فترة زمنية مساوية لعروضه الأخرى، فالمسرحية السابقة لها ( بتاع الزيت) تم افتتاحها ١٠ ديسمبر ١٩٣١، وما قبل مسرحية (بتاع الزيت) كانت مسرحية (سرقوا الصندوق يا محمد) تم افتتاحها ٢٦ نوفمبر ١٩٣١، والمسرحية التالية لـ (عمرو بن العاص فاتح مصر) وهى مسرحية (يا أولاد الإيه) من تأليف محمد نبيه عبد الكريم والتى استمرت طوال شهر فبراير ١٩٣٢. وقد تم نشر هذه المسرحية ضمن مجموعة مسرحيات قام بتمثيلها الكسار وفرقته لمؤلفين متعددين فى جزئين من إصدار المركز القومى للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية عام ٢٠٠٧ من مكتبة الأستاذ ماجد الكسار ابن الفنان الكبير على الكسار، بتقديم ودراسة الأستاذ الدكتور سيد على إسماعيل.
■ هل كان هناك موقف من الأزهر وقتها لمنع ظهور شخصية عمرو بن العاص؟
مما سبق نجد أن العرض لم يتم منعه، ولكن هذا لا يمنع وجود آراء متعددة منها ما يدعم العرض وما يطرحه، ومنها ما يدعم العرض، والملاحظ أن من كانوا ضد العرض لم يكن رفضًا منهم لتقديم شخصية عمرو بن العاص على المسرح، ولكن كان التحفظ فيما كُتب فى الصحافة مرتبط بتقديم هذه الشخصية التاريخية المرتبطة بالتاريخ الإسلامى من خلال فرقة مسرحية كوميدية ومن خلال ممثل اشتهر بتقديم الكوميديا.
■ هل هناك تحامل من الجريدة وهى صوت الماسونية فى مصر لإظهار الغيرة الدينية كنوع من الرد على الهجوم عليها؟
أريد أن ألفت النظر بأن الماسونية ومحافلها فى هذا التوقيت لم تكن سيئة السمعة أو لم تكن أهدافها التى يرى الكثيرون أنها أهداف ضد الوطن وضد قيمه وأنها متماسة ومتداخلة مع الحركة الصهيونية، بل كانت صورتها أقرب إلى الجمعيات الخيرية الداعمة لمبادرات مجتمعية وكانت هناك الكثير من الأسماء الوطنية اللامعة من أعضائها والكثير من أبناء الأسرة العلوية الملكية فى هذا الوقت.
■ هل ترى علاقة مع ما أثير من محاولة تجسيد يوسف وهبى لشخصية الرسول فى فيلم ألمانى عام ١٩٢٦؟
ما يخص قصة محاولة يوسف وهبى تقديم شخصية سيدنا محمد (ص) فى فيلم سينمائى فقد كان الفيلم المقترح غير مصرى بل هو إنتاج مشترك بين شركة ماركوس السينمائية الألمانية والحكومة التركية، ونلاحظ أن هذا بعد ثورة كمال أتاتورك على السلطان العثمانى وإنهاء ما يسمى بالخلافة العثمانية وإعلان الجمهورية التركية على أسس ومبادئ العلمانية، بما تتيحه من مساحات أكثر رحابة علميًا وثقافيًا وفنيًا، وكان حسب ما نشرته مجلة «المسرح»، فى ٢٦ مايو ١٩٢٦ أن يوسف وهبى سيقوم بتقديم شخصية سيدنا محمد (ص) فى هذا الفيلم. وحسب ما نشر فى هذا الوقت قام يوسف وهبى بالاستعداد لتقديم الدور ونشر عدة صور فوتوغرافية لنفسه فى الشكل المتخيل لظهور الشخصية. وهو ما أثار حفيظة الرأى العام، فقام شيخ الأزهر بمخاطبة وزارة الداخلية للتحقيق فى الأمر ومنع يوسف وهبى من تمثيل شخصية النبى محمد، ولو اقتضى الأمر منعه من السفر لتصوير الفيلم فى الأماكن التى حددتها الشركة خارج مصر. وهو ما استجابت له وزارة الداخلية فاستدعت يوسف وهبى للتحقيق، وبعد التحقيق معه ومناقشته فى الأمر تراجع يوسف وهبى عن قبول الدور، وأرسلت وزارة الداخلية ردًا لمشيخة الأزهر مضمونه اعتذار يوسف وهبى عن الدور كما أنه سيعلن اعتذاره هذا فى الصحف، وهو ما حدث فعلًا، وتم نشر تصريحات لوهبى قال فيها: «عندما قبلت أن ألعب هذا الدور، ليس إلا لرفعة شأن النبى محمد صلى الله عليه وسلم، وتصويره أمام العالم الغربى بالشكل الذى يليق به»، مشيرًا إلى أن غرض الفيلم الأساسى هو الدعوة والإرشاد إلى الدين الإسلامي.
واختتم حديثه قائلًا: «وبناء على القرار الذى اتخذه أصحاب الفضيلة والعلماء، واحترامًا لرأيهم، أعلن عن انسحابى من هذا الدور، وسوف أبلغ الشركة بذلك».
لكن الملاحظ أن تلك الفترة كانت مفعمة بالليبرالية وحرية الرأى والعقيدة، رغم مناوشات المحافظين أو من يساند تيارهم أحيانًا لأغراض سياسية أو أغراض ترتبط بترتيب كتل القوى فى المجتمع، ونجد مثلًا أنه قد تم تقديم فيلم سينمائى باسم (آلام السيد المسيح) عام ١٩٣٨، والذى قام ببطولته وفى شخصية السيد المسيح الفنان أحمد علام، وبموافقة الأزهر وشيخه حينئذ الشيخ محمد مصطفى المراغي، والشركة المنتجة للفيلم كانت ملكًا لمسلمين ثلاثًا: محمود السنهوري، شريف المندور، إبراهيم أحمد خليل، كتب السيناريو لهذا الفيلم الأب أنطوان عبيد، وراجعها عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، الذى كان فى هذا الوقت عميدًا لكلية الآداب جامعة فاروق (القاهرة حاليًا)، وقد شهد افتتاح الفيلم جمهور كبير ونخبة من كبار مثقفى وفنانى مصر منهم:
عباس محمود العقاد والمُفكر خالد محمد خالد والفنان الملحن محمد عبدالوهاب والفنانين أنور وجدى ونجيب الريحانى ويوسف وهبى وبشاره واكيم والفنان على الكسار ومن الفنانات ليلى مراد وليلى فوزى ومارى منيب وغيرهن.
وبالاطلاع على تترات الفيلم نجد: أن الفيلم من بطولة أحمد علام، والذى قام بتمثيل شخصية السيد المسيح- وعزيزة حلمى والتى قامت بدور السيدة العذراء مريم، سميحة أيوب مريم المجدلية، سعد أردش الفريسي، توفيق الدقن قيافا،عبدالعليم خطاب فى بطرس،إستيفان روستى فى دور (المولود أعمى)، وعبدالسلام محمد فى دور (المشلول) الذى صنع معه المسيح معجزة الشفاء، وكانت مرجعية الفيلم القصصية من إنجيل متى وأخرج الفيلم المخرج محمد عبدالجواد.
■ قل لي: كم مسلمًا فى هذا التتر وكم مسيحيًا؟ وما هو رد فعل الأزهر خاصة أن الفيلم يتناول قصة السيد المسيح من وجهة نظر المسيحيين ومعتقدهم وهى وجهة نظر مخالفة فى مفهومها ونهاية القصة للعقيدة الإسلامية وتصورها؟
نحن بلد ماضيها أفضل من حاضرها والمستقبل يعلمه الله.
■ يقودونا هذا إلى أهم مسرحية ما زالت ممنوعة “الحسين شهيدا “ما هى مشكلتها فهل يمكن مستقبليا أن تعرض؟
(الحسين ثائرًا) و(الحسين شهيدًا) أو كما يطلق عليهما أحيانًا ثأر الله، موضوع ارتبط فيه العام بالخاص فى فترة تصاعدت فيها وتباينت قوة التيار المحافظ داخل المؤسسة الرسمية ولا أنكر أن هذا كان أيضًا مجتمعيًا.
■ ولتوضيح كلامى أتساءل معك: هل لو كان مؤلف مسرحية (الحسين شهيدًا) كاتبا آخر غير عبد الرحمن الشرقاوى كان سيختلف تعامل مؤسسة الأزهر مع المسرحية؟
وهل لو كان تقديم هذه المسرحية للإجازة الرقابية وموافقة الأزهر لم تأت بعد خلاف فكرى بين الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوى وشيخ الأزهر وقتها الشيخ عبد الحليم محمود كان الموقف من المسرحية سيختلف؟
ولبيان وجهة نظرى أقول تميز الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوى بتقديم كتابات متعددة للتاريخ الإسلامى وشخصياته من منظور محكم ومحدد ومن أعماله المتميزة وغير التقليدية: (محمد رسول الحرية)، و(الصديق أول الخلفاء)، و(الفاروق عمر)، و(عمر بن عبدالعزيز)، و(على إمام المتقين)، وعندما كتب مسرحيته الشهيرة (ثأر الله) ونشرها عام ١٩٦٩م، أى أنها لم تواجه مشكلة من أى جهة عند نشرها، ولكن عندما اتفق معه المخرج المسرحى كرم مطاوع على تحويلها لعمل مسرحى، وجد فى تدريباتها وبروفاتها، وتم تحديد افتتاحها على أن يكون فى ديسمبر ١٩٧٢، أبدى الأزهر اعتراضه عليها وعلى تجسيد الشخصيات التى تنتمى لآل البيت ضمن أحداث المسرحية، فتم الاتفاق على أن يبدأ الفنان عبدالله غيث الذى يجسد شخصية الإمام الحسين كلامه بعبارة «قال الحسين»، وأن تفعل الأمر نفسه الفنانة أمينة رزق التى كانت تجسد شخصية السيدة زينب، ودعا كرم مطاوع عددًا من الصحفيين والكتاب ومسئولى الرقابة على المصنفات الفنية، وعددًا من علماء الأزهر لمشاهدة البروفة، ولم يتحمس الأزهر للعرض، فتوقف المشروع!!
وفى عام ١٩٧٦ عادت (ثأر الله) أعاد كرم مطاوع المحاولة لكن الأزهر زاد فى تعنته ورفضه، وكان التساؤل: هل موقف الأزهر مرتبط ومترتب على خلفية الاختلاف فى الرأى بين شيخ الأزهر وقتها الشيخ عبد الحليم محمود والكاتب الكبير عبد الرحمن حين كتب شيخ الأزهر مقالا فى مجلة (آخر ساعة) قال فيه: «ومما يستلفت النظر أن العشرة المبشرين بالجنة كلهم من الأغنياء»، فرد عليه الشرقاوى بمقال عنوانه: «لا يا صاحب الفضيلة» جاء فيها أن الأغنياء لا يشترون الجنة بأموالهم، وأن تاريخ الإسلام زاخر بفقراء لم يمنعهم فقرهم من العمل والتقرب إلى الله. فكان موقف التعنت من الأزهر ومن تلاميذ الشيخ عبد الحليم محمود بعد وفاته من الشرقاوى واضحًا، واعتبروا أن موقفهم هذا به وفاء لأستاذهم وشيخهم إن لم يكن موقفًا مبدئيًا من المسرح وما يقدمه. وزد على هذا قناعتهم بأن الشرقاوى ينتمى لليسار وله أفكاره التى يعتبرونها مضادة لآرائهم وتصوراتهم عن التاريخ والفقه والشخصيات التاريخية التى يعتبرونها دينية!
فتخيل معي، ماذا لو كان الكاتب للمسرحية غير عبد الرحمن الشرقاوى بتوجهه السياسى وانتمائه الفكري؟
ماذا لو جاءت هذه المسرحية قبل اختلاف الشرقاوى مع شيخ الأزهر فيما طرحه الأخير فى الإعلام؟
نأتى فيما بعد إلى محاولة أخيرة لتقديم المسرحية وكان هذا عام ١٩٨٧ بعد أن تولى أحد كبار علماء الأزهر وهو الدكتور عبدالمنعم النمر، الدفاع عن مسرحية الشرقاوى وكتاباته فى التاريخ الإسلامى بوصفه مجددًا وباحثًا قدم الكثير للمكتبة العربية والإسلامية، فتم تقديم المسرحية مرة ثالثة للرقابة على المصنفات الفنية والتى أحالتها بدورها للأزهر لإبداء الرأي. فتم تشكيل لجنة من الأساتذة الأزهريين، وأبدت تلك اللجنة تحفظها على ظهور الحسين والسيدة زينب وتجسيد شخصيتهما على المسرح، فتم الاتفاق على صيغة «يقول الحسين» «وتقول زينب»، وطلبت اللجنة حذف الأبيات التى تسب يزيد بن معاوية باعتباره صحابيًا!! (علامات التعجب من عندي)، وأخيرًا تغيير اسم المسرحية من (ثأر الله) إلى اسم آخر، فاستقر الشرقاوى على «الحسين ثائرًا»، عنوانًا لجزئى المسرحية «الحسين ثائرًا والحسين شهيدًا»، وبعد دمجهما وتمت إجازة المسرحية. وقرر وزير الثقافة الدكتور أحمد هيكل، آنذاك، فى أن تظهر المسرحية للنور، لكن عجز المسرح القومى ثم المسرح الحديث عن تمويل العمل!!! تخيل!! عجز وزير الثقافة عن توفير الميزانية اللازمة لتقديم العمل بعد اقتراح إنتاجها على خشبة أى من المسرحين القومى والحديث؟؟!! هل تصدق هذا ؟!
ولكن هذا لم يمنع محاولات تقديم المسرحية حتى بعد وفاة مؤلفها فى ١٠ نوفمبر ١٩٨٧، فقام المخرج المسرحى الكبير جلال الشرقاوى بتقديم طلب لشيخ الأزهر، آنذاك، الدكتور محمد سيد طنطاوى، فى ٢٤ أغسطس٢٠٠٠، برغبته فى تقديم المسرحية مع مراعاة شروط الأزهر.
فقام الدكتور محمد سيد طنطاوى بتحويل الموضوع إلى (مجمع البحوث الإسلامية)، فأبدى أعضاء المجمع اعتراضاتهم على المسرحية، ومن اعتراضاتهم أن المسرحية ستثير الفتنة بين الشيعة والسنة، وأن المسرحية تمثل تحريضا للشعب ضد الحكم الشرعى للبلاد!! (علامات التعجب مني) فطلب الأستاذ جلال الشرقاوى من شيخ الأزهر أن يسمح له بحضور إحدى جلسات المجمع لمناقشة أسباب الرفض، فوافق شيخ الزهر وحضر الشرقاوى إحدى الجلسات فوجد أن اعتراض بعضهم من حيث المبدأ، واعتراض البعض الآخر على بعض التفاصيل التى يمكن تلافيها ومعالجتها، وهو ما قام به الشرقاوي، لكن القرار النهائى كان رفض الأمر برمته.
وبعد ٢٠١١ وبعد تقديم مسلسل (عمر) وظهر فى المسلسل الصحابة والتابعين، اعتقد المخرج المسرحى عصام السيد أن الظروف مواتية لتقديم المسرحية، فتقدم بها إلى الرقابة على المصنفات الفنية، لإجازتها وتقديمها على المسرح، وما زال ينتظر الإجازة.
ورأيى أنه لن يحصل عليها.
إذن ٥٢ سنة ومحاولات تقديم المسرحية لم تتوقف وتعنت الأزهر وخوف الرقابة على المصنفات الفنية لم يتغير، وأعتقد أن السياق المجتمعى وقرارات من يملك الإجازة أصبحت أكثر تشددًا ورفضًا، ورغم الثورة المعلوماتية والتواصل السلس مع مختلف إنتاجات العالم الفنية والثقافية إلا أن مؤسساتنا ما زالت فى كهفها، وأعتقد أنها عندما تستيقظ وتخرج من كهفها ستجد أن الحل هو ما طرحه الحكيم فى رائعته (أهل الكهف) وهو عودتهم لكهفهم وترك العالم الذى أصبح مختلفًا ومخالفًا لهم، لكن متى يحدث هذا؟ قد يكون بعد ٥٢ سنة أخرى وعليك بخير.