سمعت كما تسمعون خلال الفترة الأخيرة عبارات تدعونا للعودة للقيم القديمة، ومباديء الأجداد: "دي مش تقاليدنا".. "شوفوا زمان كان ايه ودلوقتي ايه؟!".. "افتكروا أهاليكم اتربوا على ايه؟".
إن الحقيقة تقول بملء فيها: "صنع الأجداد هذه القيم من أمرين: حضارتهم وواقعهم" أليس الإنسان ابن بيئته كما قال ابن خلدون؟!
تغير العالم وتغير أبناؤه أكثر من مرة. الذي حرص على ارتداء إزار من الكتان هو ذات المصري الذي ارتدى بعد ذلك جلبابًا من القطن وهو ذاته الذي ارتدى "البنطلون الترجال والصوف". إن الأمر لا يتعدى بضع تغييرات تستجيب للبيئة وتجعل من الإنسان كائنًا قابلًا للتكيف معها. لكن بذرتك الحضارية تبقى هي الأساس. وأنت تفاجأ بها تحركك بشكل مختلف عن غيرك حين تختار اختياراتك الحياتية الخاصة بك بين "باليتة" اختيارات متاحة لك ولهذا الغير. نختار نحن المصريين دائما اختيارات مختلفة. المصريون بيتوتيون بطبعهم، وهم قانعون أيضًا بطبعهم، وهم عاشقون للاستقرار، يميلون للبكاء لكن ليس لأنهم كئيبون بل لأنهم عاطفيون. قوم يزرعون الأرض ويجيدون ذلك أكثر من أي شيء آخر تاريخيًا، ومع ذلك أبهروا العالم بخوضهم لمجالات الفلك والهندسة في نجاحات مذهلة. فقط يجب عليك أن تغير البيئة، ثم انظر لاختيارات الحضارة لديك.
إن هؤلاء القوم مازالوا قادرين على القيام بأصعب المهمات، إذا ما وضعتهم في بيئات تلائم هذه المهمات. قال نابليون ذات مرة "أستطيع أن أملك العالم بالجندي المصري والتركي" في إشارة لانخراطهم في أعمال الجندية. إن الشعوب التي تعلمت كيف تعطي تستمر في العطاء للنهاية، وتستطيع ابتكار طرق لإنتاج العطاء. لكن عليك أن تهبهم أدوات للوصول لهذه الطرق.
إن الأمر ليس فلسفيًا ولا خزعبليًا. بل إنه أمر يتكرر كل فترة تاريخية. احتفظت جدران المعابد المصرية القديمة بعبارات تشير إلى عدم رضاهم عن تصرفات عصورهم، التي كانت حديثة لهم، إذ نرى عبارة مثل: "لقد سادت تصرفات غير مرضية في هذا العصر حين انشغلت النساء بالنظر إلى المرآة". وما حدث أن انتشار مستحدثات كالمرأة انتشر معها تصرفات جديدة. وهذا ما يحدث مع كل تغير للبيئة.
البيئة تعرف كيف تغيرك، وفي ذات الوقت تعرف كيف تحتفظ بما تملكه أنت. إنها تستطيع أن تغيرك على نحو لا يمحو ما مررت به، وإنما يعمل على أن تطيل استخدامه لفترة ما، إذ أن كل استخدام له دوافع. حين تجد ما يدفعك للاستخدام مرة أخرى تفاجئك نفسك بأنك تستطيع فعل ما كنت تفعله، ربما ليس بذات الكفاءة لكنك تستطيع القيام به على نحو يكفيك كي تحيا جيدًا وفق حاجتك له.
لذا فالحل الوحيد لتغيير الإنسان بشكل كبير هو تغيير بيئته، لكن لا تتخيل ظهور إنسان خارق بتغيير البيئة، إذ أن الإنسان فقط يستخدم مكوناته الحضارية مع بيئة متغيره، لذا كل قوم لهم صفات منذ جاءوا للحياة حتى الآن. من ولد بجانب المتوسط لا يفقد أبدًا روحه الحارة وضحكته الدائمة حتى لو قضى جل عمره في الولايات المتحدة الأمريكية مثل جورج كلوني مثلًا. بيئة جميلة تعني إنسانًا يمكن أن يكون جميلًا لكن بقدرات حضارته التي ينتمي إليها، ولكل مبدأ طفرة، لكن لا يمكن الاعتماد على الطفرات. لذا اعملوا على تحسين تربية أبنائكم وأنتم متأكدون أنكم تصلحون لهم بيئة تجعلهم الأفضل بحضارتكم.