على الرغم من أن المثل القديم يقول إن المال لا يشتري السعادة إلا أن الدراسات التي يهتم بها فرع من فروع علم الاقتصاد الحديث وهو اقتصاديات السعادة تؤكد أن إجابات الناس في استطلاعات الرأي لمئات الآلاف حول العالم وكذلك مراقبة تصرفاتهم وتحليلها تدلُّ على أن المال يشتري السعادة.
من الملاحظ أن هذا الفرع من علم الاقتصاد أصبح يحظى باهتمام أكاديمي لافت حتى أن مادة اقتصاديات السعادة أدخلت في المقررات والمناهج الدراسية في العديد من جامعات العالم المتقدم ناهيك عن تخصص أساتذة في تدريس هذا الفرع من العلوم الحديثة بالجامعات وفي مراكز الأبحاث والدراسات؛ وغالبية أساتذة وخبراء السعادة خلفيتهم العلمية علوم الإحصاء والاقتصاد العام والنفس والاجتماع. وتبحث اقتصاديات السعادة مجموعة من العوامل التي تؤثر على الرفاهية بخلاف الدخل، مثل تأثير عدم المساواة وسياسات الاقتصاد الكلي مثل التضخم والبطالة على مستويات الرفاهية. كما تتضمن جودة الحياة والتي تتظافر حولها مجموعة من العناصر مثل الحرية السياسية والناتج المحلي الإجمالي للفرد وتكلفة المعيشة ومتوسط الأمل في الحياة ومستويات التلوث والوصول إلى الرعاية الصحية والدعم الاجتماعي وغيرها من العناصر.
الملفت أن العديد من الدراسات الحديثة لقياس السعادة أعطت إجابة متشابهة وهي أن عوامل الدخل أو الثروة تؤثر بشكلٍ رئيسيٍّ في تحقيق السعادة. على سبيل المثال، هناك 6 من كل 10 أميركيين يعتقدون بأن "المال يمكن أن يشتري السعادة"، وفقًا لاستطلاع حديث أجرته شركة أمباور(Empower) ، وهي شركة خدمات مالية، وبالتالي اتفقت غالبية الآراء على أن المال يحقق مستويات أعلى من الرضا عن الحياة.
لكنْ يا تُرى كم يرضيك لتصبح سعيدًا؟ الإجابة كانت مفاجأة، حيث قال المشاركون إنهم يحتاجون مليون ومائتي ألف دولار في المتوسط حتى تتحقق سعادتهم. والملاحظ أن رقم الثروة المطلوبة تفاوتت من جيل لجيل. وكان جيل الألفية الثانية (مواليد سنة 2000 وما بعدها) هم الأكثر إصرارًا على طلب الكثير من المال. وهذه ظاهرة نلاحظها أيضا بين أبناء هذا الجيل في مجتمعنا. ويتفق حوالي 82% من جيل الألفية على أن المال يمكن أن يشتري السعادة، أكثر من أي جيل آخر. وهم أيضًا من يطالبون بأعلى الرواتب بقطع النظر عن مؤهلاتهم أو جهدهم. وقد طالب جيل الألفية بألَّا يقل الدخل السنوي للفرد عن 95 ألف دولار. هذا هو المتوسط الذي يجعلهم أقل توترًا، ويلائم دفع فواتيرهم الباهظة وفسحهم ومشترياتهم.
ومن يفحص مختلف الدراسات الحديثة يجد ترسيخ فكرة أن المال محرك أساسي لجلب السعادة باعتباره يعزز مكانة الفرد الاجتماعية ووضعه الاقتصادي.
لكنْ أين العوامل الخاصة باستقرار الأسرة ضمن حوافز تحقيق السعادة، وأين صلاح الأبناء وتفوقهم في تعليمهم واتزانهم العاطفي والنفسي، وأين صلاح الزوجة والزوج في هذه المنظومة؟ أين الهداية بمعنى الإيمان والقرب من الله والتحلّي بالأخلاق الحميدة والتراحم، أين الصحة وأين حسن التوفيق … ألا تصنع هذه العوامل الراحة التي لا يوفرها المال؟! هل الشخص إذا لم يحظ بالتوفيق في العمل أو صلاح الزوجة/ الزوج والأبناء أو فقد الحياة الأسرية والاجتماعية يمكن أن تدخل قلبه السعادة ويذوق طعم الاستقرار والراحة والهناء؟! أظن ستصبح هذه العناصر إذا افتُقِدتْ مصدر تعاسة وشقاء للناس؛ لكنْ علم الاقتصاد المعاصر وفرعه اقتصاديات السعادة لا يعترف على ما يبدو بهذه العوامل ولا يضعها في الميزان!
قد يكون التفسير بأن تلك ردود الناس في استطلاعات الرأي وتلك بضاعتكم رُدت إليكم، وهذا صحيح شكليا، لكن العلوم الانسانية وعلم الاقتصاد والسعادة لا تتبع فقط رغبات الناس بل ترشدهم إلى مضامين إنسانية أخرى غائبة عن أذهانهم.
وإذا فحصنا توصيات العديد من الأبحاث التي تم إعدادها خلال وبعد جائحة كورونا نكتشف أن الجائحة غيرت كيفية تقييم الأشخاص للعلاقة بين الدخل وبين السعادة، ففي النهاية ما فائدة المال إذا كنا لا نستطيع إنفاقه، وما قيمة الثروة إذا كانت قد عجزت عن تقديم علاج في وقت مناسب بل وعجزت عن توفير سرير في مستشفى عام للطوارئ! وكذلك الأمر في فترات الحروب والكوارث الطبيعية حيث لا معنى للثروة إذا كانت لا تحقق لأصحابها الأمن والأمان. فهل من الضروري أن نمر بجوائح وحروب وكوارث حتى ندركَ أن المال بمفرده لا يحقق السعادة؟!
فلتكن لكم سعادتكم في الثروة والمال والرفاهية واتركوا لنا سعادتنا؛ نحن مازلنا نؤمن بأن المال لا يصنع السعادة، وأن اللقاءات العائلية المليئة بدفء المشاعر بين الأبناء والآباء لا تضاهيها سعادة، وأن لعب الآباء والأجداد مع أطفالهم حتى لو اجتمعوا على فطيرة بالعسل الأسود أو الجبنة "المش"، أو طبق رنجة، فإن سعادتهم لا توصف ولا تقارن بمال. عيشوا في سعادتكم المادية واتركوا لنا معنوياتنا، والمهم ألَّا تحسدونا عليها ولا تخربوها بترويج سمومكم في أجيالنا!