لا أعرف لماذا تخيل الروائى المبدع محمد حسن علوان هذه النهاية المأساوية للشيخ الأكبر محى الدين بن عربي؟.
لقد تصوره فى آخر أيامه وقد شاب شعره، وانحنى ظهره،وذهب سمعه، واضمحلت ذاكرته، وأصبحت الحياة عنده أكثر مشقةً من الموت، ولم يتوقف خياله عند هذا الحد، وإنما امتد هذا الشقاء إلى جيبه فجعل الفقر يمسّه وقد أصبح ذات يوم، وليس معه مالٌ ينفق به على بيته، فخرج فى الصباح ليقف مع الرجال الذين ينتظرون من يستأجرهم للفلاحة، فاختير أغلب من وقفوا معه إلا هو...
نفروا من شيبته وانحناء ظهره حتى مر رجلٌ فأخذه معه إلى بستانٍ صغير قرب بيته، فصار يقطف الثمار،ويسقي الزروع حتى المساء، فتطعمه زوجة الرجل، ويعطيه هو الدرهمين اللذين يشتري بهما عشاء له ولأسرته، ويستمر على هذه الحالة ثمانية أشهر أو ربما تسعة...
وأرى أن هذا خيال مفرط شديد السواد لخاتمه الشيخ الأكبر محي الدين بن عربى رغم وجود الكثير من تلاميذه ومريدوه ولا يمكن أن يتصور أحد أن تكون هذه أحوال رجل صاحب علم وفكر وفلسفة كما أن مؤلفاته وافكاره كانت تسبقه أين ما ذهب واستقر...
أيضا تصور الروائى الكبير لوفاة الشيخ الأكبر بهذه الصورة الخيالية الغير منطقية والتى قدمها الكاتب بدون اى مقدمات تبرر ذلك...!
أقرأ تخيله للحظه وفاته :
غبت عن الوعي زمنًا لا أعرفه... أفقت وأنا معفّرٌ بالتراب وعمامتي منفرطة... خيطٌ من الدم يسيل من فمي... في داخله سنٌّ تهتزّ... الزقاق أقل ازدحامًا بالناس وقد فرّ أغلبهم، وتفرقوا، تناهت إلى سمعي هتافاتهم المختلطة، يرددها فتية
صغار مرّوا بقربي...
رآني أحدهم ملقيًّا على الأرض في هذه الحالة، لا أطيق القيام وحدي فهرع إليّ، ومدّ إليّ يده وهو يقول:
-مأجور يا شيخ جزاك الله خيرًا على صدعك بالحق ثم التفت إلى رفيقه وهو يقول:
– أي عذرٍ لنا إن نحن لم ننصر العز بن عبد السلام حتى نخرجه من
سجنه ونحن رجال أصحاء، إن كان حتى هذا الرجل الطاعن في السن قد خرج لنصرته وناله هذا الأذى!
وصلت إلى البستان أخيرًا، ضممت ذراعي اليسرى على ضلعي الكسير، ورحت أقوم بعملي، سقطت مني بيضة وانكسرت، أجريت الماء، وجلست لأرتاح، جمعت الأوراق، وقطفت بعض الثمار،وتوقفت لاهثًا، شعرت بالدماء تندفع في رأسي وكأني أقف عليه لا على قدميّ...
جلست لألتقط أنفاسي... ثم حاولت الوقوف مرةً أخرى... مادت بي الأرض... سقطت على وجهي... تقافز الدجاج من حولي هلعًا... تعلق نظري بورقة صفراء لم أجرفها...
متّ...
هكذا اراد الروائى أن ينهى حياة الشيخ الأكبر محي الدين بن عربى بهذه الصورة الحزينة...
ولم يكتف بهذ ولكن تخيل ما دار داخل الشيخ الأكبر بعد وفاته...
كتب بخيال متفرد:
ما أسهل حياة البرازخ... أن تتأمل الحياة وأنت مجرد من الإرادة... لا تفعل ولا تنفعل...
يحملك رجلٌ وامرأة إلى بيت غريب... يجسّانك ويحوقلان ثم يحجبان عنك العالم بعباءتك...
تحملك المحفّة إلى بيتٍ مألوف... أسمع أصواتهم وأشمّ روائحهم... وإذا تحرك جفناي المسدلان لمحت وجوههم الباكية...
صفية تبكي ترمّلها للمرة الثانية...
ينطبق عليّ قماش الكفن فيحجب عنيّ الرؤية... يرتجّ جسدي على أكتاف الحاملين... يسكن أخيرًا في محراب المسجد... يرتفع الأذان... يصلّي الإمام... لا يقرأ سورة يس... يحملني الناس... يرتفع النحيب... أميز أصوات تلاميذي... أسمع قرع نعالهم... تتضاءل الأصوات وتبتعد مع انثيال التراب. تنقطع نهائيًا...
هكذا كانت السطور الأخيرة من رواية موت صغير...!
وفى النهاية يجب أن أذكر الأقوال التى أشادت بالشيخ الأكبر محي الدين بن عربى وأيضا الأقوال التى انتقدت كتاباته وأفكاره...
نلتقى الأسبوع القادم بإذن الله لتكملة قراءة الجزء الأخير لهذه الرواية.