يتجدد موسم حصاد البلح، في قلب الريف المصري، ومع نسمات أواخر الصيف، هذا الموسم الذي يحمل في طياته عبق التاريخ وجمال الأرض وعراقة الماضي، وهو واحد من أبرز الفصول الزراعية التي تضيء بتفاصيلها الدقيقة حياة الفلاحين على امتداد الأراضي المصرية.
يبدأ هذا الموسم كل عام كمشهد يتكرر منذ آلاف السنين، حيث تتدلى عناقيد البلح الذهبية من أعلى النخيل، في انتظار من يقطفها بأيدٍ خبيرة، تحمل على كاهلها عبء الحفاظ على واحدة من أقدم المهن في تاريخ الإنسانية.
فموسم حصاد البلح في مصر ليست مجرد عملية زراعية روتينية، بل هو طقس اجتماعي وثقافي يحمل في طياته الكثير من الحكايات والمعاني، فهو تجسيد حقيقي للتراث المتوارث من جيل إلى جيل.
حيث يتعلم الأطفال فنون صعود النخيل والعناية بالثمار من آبائهم وأجدادهم، في مشهد يعكس الاستمرارية والحفاظ على الأصالة في مواجهة كل تحديات العصر.
ففي الصباح الباكر، ومع أول خيوط الفجر، تبدأ القرى المصرية في النشاط، فيتوجه الفلاحون وأسرهم إلى الحقول، يحملون معهم أدواتهم اليدوية التقليدية مثل "السلبة" المصنوعة من ليف النخيل، و"البلطة" و"المنجل الكبير".
تلك الأدوات التي تشهد على رحلة الكفاح من أجل لقمة العيش، فهنا يتناغم صوت "طالع النخل" مع نسيم الصباح، وهو يتسلق النخيل بخفة ورشاقة، يقطع السباط برفق ويسقطه للأرض، حيث تنتظره الأيدي المستعدة لجمعه في أسرار وحقائب.
وتمتد عملية الحصاد لأكثر من أربعين يومًا، يعمل الفلاحون خلالها بجد واجتهاد في جمع المحصول وتصنيفه، حيث يُعتبر البلح جزءًا مهمًا من التراث الغذائي والزراعي لمصر كما أنه يمثل مصدرًا هامًا للدخل، خاصة فيالمناطق الريفية التي تعتمد عليه كأحد الأعمدة الاقتصادية.
ويبقى موسم حصاد البلح في مصر رمزًا للرزق والعطاء، وصورة من صور الترابط الاجتماعي والتضامن بين أفراد المجتمع، فهو احتفال بالحياة والكرامة والعمل الجاد، وتظل صورة الفلاحين وهم يجمعون الثمار بابتسامة عريضة على وجوههم، رمزًا للأمل والتفاؤل.
وذلك في بلد لا يتوقف أبدًا عن زرع بذور الخير في كل شبر من أراضيه، وهكذا يستمر موسم حصاد البلح، حاملًا معه كل عام قصصًا جديدة من الكفاح والرزق والفرح، ومؤكدًا أن ارتباط المصري بأرضه لا ينقطع، وأن إرادة الحياة أقوى من كل الصعاب، فهنا ترى تواصلًا بين الماضي والحاضر، بين الجد والابن والحفيد، في حكاية لا تنتهي أبدًا.
صاحب مزارع نخيل.. موسم البلح بيزيد في حلاوته عن باقي المواسم
في كل عام، تجتمع الصحراء والأراضي المصرية مع النخيل في احتفالية تتجلى فيها ثروات الطبيعة وسعادة الفلاحين، حيث تمتزج فيها الجهود العمالية بالثروات الطبيعية، فمن الواحات الغناء إلى الأراضي الصحراوية القاحلة.
يتجلى مشهد الحصاد حيث يسعى الفلاحون لجني ثمرة تعبهم وعملهم الجاد، حيث تبدأ هذه الفترة المميزة بتوقيتها الخاص، عندما يتحول لون البلح إلى الذهبي والرطب ويتدلى بفرح من عراجين النخيل، معلنًا بداية موسم يملؤه الأمل والبركة.
ويشكل موسم حصاد البلح في مصر نقطة تحول هامة ليس فقط للاقتصاد الزراعي، بل أيضًا لثقافة المجتمعات المحلية التي تعتمد على النخيل كرمز للثبات والعطاء، ووسط أجواء من النشاط والحيوية، يعمل الفلاحون في هذا الموسم بكل تفانٍ واحترافية، مجسدين تاريخه الطويل وإرثه العريق.
يقول الحاج "رمضان أبو المجد"، صاحب مزارع نخيل بمحافظة القليوبية وتاجر مواسم، أنه تتعدد ألقاب النخل منذ بداية زراعته وحتى يعلو ويرتفع في الآفاق، فالنخلة هو الاسم العام للشجرة التي تثمر البلح والتمر، والجمّارة وهي النخلة الصغيرة أو النخلة غير المثمرة.
والعرجون وهو الجزء المتفرع من النخلة الذي يحمل الثمار، والليف وهو الألياف التي تحيط بجذع النخلة، وتستخدم في صنع الحبال وبعض المنتجات اليدوية، وأخيرًا السعف وهو أوراق النخلة الطويلة والشائكة التي تستخدم في صنع السلال والحصير.
وأضاف "رمضان" أن البلح أيضًا له ألقاب وأسماء عديدة، تختلف حسب مرحلة نضجه وأيضًا حسب المناطق واللهجات العربية المختلفة، أولهما الطلع وهو المرحلة الأولى من ظهور الثمرة، حيث تكون صغيرة وغير ناضجة.
والحصرم وهو البلح الأخضر الذي لم ينضج بعد ويكون طعمه حامضًا، والخلال هو المرحلة التي يبدأ فيها البلح بالنضج ولكن يبقى صلبًا ولونه أخضر أو أصفر، والبسر وهو البلح الذي بدأ يتغير لونه إلى الأصفر أو الأحمر، ويصبح طريًا بعض الشيء لكنه ليس ناضجًا تمامًا.
وهناك الرُطَب وهو البلح الذي أصبح طريًا وبدأ يكتسب حلاوة النكهة، ولكنه لم يصل بعد إلى المرحلة النهائية من النضج، وأخيرًا التمر وهو المرحلة النهائية للبلح بعد أن يصبح جافًا ومليئًا بالسكر، وقابلًا للتخزين لفترة طويلة.
إن كل مواسم الحصاد هي مواسم خير وبهجة وبركة ولكن أعرب عن امتنانه بموسم حصاد البلح قائلًا "موسم البلح بيزيد في حلاوته شوية عن الباقي".
وشدد الحاج "رمضان أبو المجد" على أن زراعة النخيل هي عادة متأصلة ومتوارثة عند كل الفلاحين، فحتى من يمتلك أرضا زراعية صغيرة يسعى لزراعة النخل كسمة أساسية لأرضه، وأن النخل يقوم بالطرح بعد 3 سنوات فقط من زراعته وفي بعض الأحيان يصل طوله إلى 9 أمتار.
وأكد أن زراعته سهلة ولا تتطلب الكثير من الجهد والرعاية، فهي شجرة مباركة "تؤتي أكلها كل حين" وتفيض بالخير على الجميع، معربًا عن امتنانه للسيد الرئيس السيسي في الاهتمام بزراعة النخيل خلال السنوات الماضية من خلال مشروع "المليون ونصف المليون فدان"، وتوفير المبيدات الحشرية للقضاء على الآفات التي تصيب النخل مثل "الديدان والسوسة الحمراء".
وأوضح "أبو المجد"، أن الديدان قد تصيب النخل دون أن يشعروا وتتغذى على "لُب النخلة" وتأكل جوفها لمدة تتراوح بين 5 إلى 7 أشهر حتى تتجوف وتتهاوى، وقد لا يشعرون بها في معظم الأحيان لأنها تتغذى على النخلة من الداخل، وقد ترتفع النخلة كثيرًا فتسقط بفعل الرياح وتقلبات الجو، وقد تنكسر في موسم الحصاد عندما يتسلقها طالع النخل.
طالع نخل: مهنتي ملهاش بديل عصري وورثتها بكل فخر واقتناع
في قلب الريف المصري، تتوارث الأجيال مهنة "طالع النخل" كميراث لا يقدر بثمن، يجسد الشجاعة والإصرار والحب للأرض، فهذه المهنة، التي تمتد جذورها لآلاف السنين، لا تزال تحتفظ بطابعها الأثري وأصالتها الفريدة.
رغم كل محاولات التحديث والتغيير، فمهنة "طالع النخل" ليست مجرد عمل، بل هي فن يتطلب مهارة خاصة، حيث يتسلق هؤلاء الرجال الشجعان النخيل الشاهقة ليجمعوا الثمار الذهبية بعناية فائقة، معتمدين على أدوات بسيطة وحساسية عميقة تجاه الأشجار التي يعتنون بها.
وتلك المهنة التي قد تبدو شاقة وخطرة للبعض، هي بالنسبة لأهلها باب رزق وحياة، فهي تتطلب ليس فقط قوة بدنية، بل أيضًا توازنًا ومهارة عالية، حيث يتطلب الصعود إلى أعلى النخيل والوقوف بثبات بين الأغصان المرنة قلبًا شجاعًا لا يعرف الخوف.
ورغم التطور التكنولوجي، يبقى "طالع النخل" رمزًا للمهارة اليدوية البحتة، حيث لا توجد آلة تستطيع أن تحل محل اليد البشرية في هذا العمل، فهي مهنة تتحدى الزمن، وتستمر في توحيد الفلاحين المصريين حول التراث والعمل الشاق، مضيفة إلى حياة القرية بعدًا من الأصالة والشجاعة.
ويقول الشاب "عبد المولى"، طالع نخل 38 عامًا، أن مهامه تتعدد بداية من تلقيح النخل، حيث يقوم بتلقيح النخلات الإناث بواسطة لقاح النخل الذكر، وذلك لضمان جودة الثمار وكثرتها، ثم يأتي دور التقليم والتنظيف.
ويضيف: حيث يقوم بتسلق النخلة لقطع السعف القديم والجاف وتنظيف النخلة من الحشرات والآفات، ثم تثبيت العذوق وتأتي هذه المرحلة بعد نضج الثمار، فيقوم بتثبيت العذوق (الجزء الحامل للثمار) لضمان عدم سقوطها بسبب الرياح أو وزن الثمار.
ويتابع: ثم مرحلة جمع الثمار حيث يقوم بجني الثمار الناضجة، سواء كانت رطبًا أو تمرًا، بواسطة أدوات خاصة مثل "المخرافة"، وهي سلة تُستخدم لجمع البلح أو التمر، أو هز العذوق لتتساقط الثمار ويجمعها الفلاحون في الأواني المخصصة، وأخيرًا مرحلة تشذيب العراجين وتأتي بعد جمع الثمار، حيث يقوم بتشذيب السعف أو الأغصان للحفاظ على صحة النخلة وإعدادها للموسم التالي.
وأضاف "عبدالمولى"، القادم من دمياط إلى مزارع القليوبية خلال موسم البلح باحثًا عن الرزق، أنه يستخدم أدوات بسيطة وبدائية رغم كل التطور التكنولوجي، فمهنته ليس لها بديل عصري وقد توارثها عن آبائه وأجداده، واعتاد تسلق النخيل بكل توازن وخفة ورشاقة منذ طفولته، حتى أصبح متمرسًا بها ولا تواجهه أي صعوبات.
وأشار إلى أنه يستخدم الحبل "المدار" ولربط نفسه بالنخلة أثناء العمل لتوفير الحماية من السقوط، وهناك المخرافة أو "المشنة" وهي سلة أو وعاء يحمله في يديه أثناء التسلق لجمع البلح أو التمر من "السبايط"، وهناك المقص أو المنجل لقطع السعف والعراجين بهدف تفريغ "السباطة" بأكملها بعد هزها عدة مرات متتابعة.
وأعرب "عبد المولى" عن اعتزازه بمهنته كثيرًا، قائلًا "كل واحد شاطر في مهنته وقد توارثتها بكل فخر واقتناع"، مؤكدًا أنها رغم سهولتها بالنسبة إليه إلا أنها تبقى مهنة خطيرة تتطلب الكثير من التوازن والمرونة والثبات الانفعالي، نظرًا للارتفاع الشاهق لبعض النخيل ومواجهة الشمس الحارقة ولسعات الحشرات في بعض الأحيان.
وقال: كما تتطلب قوة بدنية ولياقة عالية، مؤكدًا أنه حتى الآن لا يزال من الصعب العثور على بديل عصري كفء يؤدي نفس المهام بنفس الجودة والكفاءة، دون إلحاق الضرر بالنخلة نفسها.
وأشار إلى أنه لا يمكن للآلات الحديثة أن تقدم هذه الرعاية الفردية والتفصيلية لكل نخلة كما يفعل الإنسان، وأنه يمكنه الوصول إلى أماكن دقيقة في النخلة والتحكم في عملية الجني بشكل متوازن وقطف الثمار الناضجة فقط، بينما تواجه الآلات صعوبة في التعامل مع الفروع والعذوق بشكل مرن دون إلحاق الضرر بالنخلة أو بالثمار.
===============
تاجر جملة: النخلة تنتج 250 كيلو.. و"الحياني" أشهر الأنواع
في أرض النيل الخصبة، يحتل البلح مكانة خاصة في قلوب المصريين وثروتهم الزراعية، فالبلح، أو "الذهب الأحمر"، ليس مجرد فاكهة موسمية تُزين موائد المصريين، بل هو جزء لا يتجزأ من التراث الاقتصادي والثقافي للبلاد.
وتمتلك مصر واحدًا من أكبر أعداد أشجار النخيل في العالم، حيث تقدر الثروة بنحو 15 مليون نخلة، تنتج مجموعة متنوعة من أنواع البلح التي تلبي احتياجات الأسواق المحلية والدولية على حد سواء.
كما تمثل ثروة البلح مصدرًا هامًا للدخل القومي، حيث يتم تصدير كميات كبيرة من البلح المصري إلى الأسواق العالمية، لتكون سفيرًا للمذاق الفريد والجودة العالية، كما يسهم البلح في تأمين سبل العيش لآلاف الأسر العاملة في زراعة النخيل، وجنيه، وتعبئته، ما يجعله عمودًا فقريًا للاقتصاد الزراعي في العديد من المناطق الريفية.
ولا تقتصر أهمية البلح على الجانب الاقتصادي فقط، بل تتجاوز ذلك لتشمل جوانب صحية وغذائية، حيث يُعرف البلح بقيمته الغذائية العالية وفوائده الصحية المتعددة، ففي كل عام، ومع بداية موسم حصاد البلح، يتجدد الأمل ويعم الفرح في الريف المصري، حيث تتجسد في هذه الثروة قصة نجاح مستمرة وشاهد على أصالة وعراقة الزراعة المصرية.
يقول المعلم "محمد بوشه"، تاجر جملة، إن موسم حصاد البلح هو موسم خير وبركة للفلاحين والتجار وأنهم ينتظرونه من العام للعام، لأنه مصدر رزق للجميع؛ مشيرًا إلى أن النخل يطرح بإنتاجية زائدة عامًا ويقل في العام التالي، وهكذا تباعًا.
وأضاف "بوشه"، أن النخلة تنتج ما يقرب من 250 كيلو بلح في الموسم الواحد، وأن الكيلو يخرج من الأراضي بسعر يتراوح من 10 إلى 13 جنيهًا، مرورًا بالتعبئة والنقل حتى يصل للمستهلك بسعر يتراوح من 20 إلى 25، ويستمر الموسم لمنتصف شهر أكتوبر.
وتابع: ويبدأ موسم حصاد البلح في المحافظات على فترات متفاوتة نتيجة الطقس والمؤثرات البيئية تبدأ من بداية شهر أغسطس وحتى أواخر أكتوبر، وأضاف أن أكثر أنواع البلح شهرة في مصر هو البلح "الحياني"، وأنه يتم عناية النخلة طيلة العام مرورًا بمراحل عدة استعدادًا لموسم الطرح، وبمجرد انتهائه يتم "تقليم" النخلة وقطع "السبايط" استعدادًا للموسم الجديد.
وأوضح أن النخلة شجرة طيبة مباركة، والبلح هو الفاكهة الوحيدة المتوافرة فترة واحدة خلال العام، ويحبها الجميع؛ مؤكدًا أنه في القرى يتم إهداء البلح للأقارب والجيران بكثرة كطقس تقليدي لا غنى عنه.
وأعرب "بوشه" أن البلح يمثل ثروة اقتصادية وغذائية مهمة لها تأثير كبير على الاقتصاد المحلي والدولي؛ مؤكدًا أن تلك الزراعة عظيمة فمصر تنتج حوالي 1.7 مليون طن سنويًا من التمور.
وقال: وهو ما يمثل حوالي 18% من إجمالي الإنتاج العالمي للتمور مما يجعلها في مقدمة الدول المنتجة للتمور، متفوقة على دول أخرى معروفة بإنتاج التمور مثل المملكة العربية السعودية، وإيران، والعراق، والجزائر، ويُزرع فيها أكثر من 15 صنفًا من التمور مثل: الزغلول، والحياني، والسيوي، والبرحي، والمجدول.
وأضاف "بوشه" أن النخل له أهمية كبيرة عند الفلاحين، خاصة في المناطق التي تعتمد بشكل رئيسي على زراعة النخيل، مثل واحات مصر والبلدان العربية الأخرى، فالنخلة ليست مجرد شجرة، بل تمثل مصدرًا مهمًا للرزق وبصمة أساسية في كل أراضي الفلاحين.
وتابع قائلًا: "النخلة كلها بركة وخيرها مبيخلصش"، فيستفيد الفلاحون من الثمار في المقام الأول، كما تستخدم الجذوع أحيانًا في البناء أو الحطب، ويستخدم السعف في في صنع الأدوات اليدوية مثل السلال والحصر والأقفاص، موضحًا أن الليف الذي يغطي الجذع يستخدم في صنع الحبال والمكانس وأحيانًا الفرش.
وأعرب عن أن النخلة لها قيمة ثقافية وتراثية عميقة عند الفلاحين، وتُعتبر رمزًا للكرم والعطاء والصمود، كما توفر زراعة النخيل فرص عمل لأفراد الأسرة والمجتمع المحلي، بدءًا من زراعة النخيل ورعايتها، مرورًا بعمليات التلقيح والجني، وصولًا إلى النقل والتسويق.
وأشار إلى أن البلح يعتبر جزءًا من استراتيجية الأمان الغذائي للفلاحين، قائلًا "البلح موجود في كل بلد وكل بيت وكل الناس بتاكل منه مرة واتنين وعشرة".