بعد انتهاء الحرب الباردة نشر الباحث الإستراتيجى الأمريكى الشهير زبيجنيف بيرجينسكى كتابا بعنوان "رقعة الشطرنج الكبرى". وقد وصف فى كتابه ما يجب على أمريكا فعله كى تبقى القطب الأوحد المهيمن على العالم. ومنذ صدور هذا الكتاب وحتى اليوم تغير النظام العالمى بشكل دراماتيكى وتحول من الأحادية القطبية إلى عالم متعدد الأقطاب. وهو تحول لا يروق للغرب فيما ترحب روسيا والصين به. من هنا يطرح عالم السياسة الشهير ألكسندر رار فى كتاب (روسيا والغرب.. لمن الغلبة ؟) والذى نقلة إلى العربية (محمد نصر الدين الجبالى). فى الماضى كانت الأمور واضحة جلية وكانت الرأسمالية والشيوعية تسعيان إلى الفور بمناطق نفوذ جديدة فى العالم وفى الوقت نفسه إضعاف المنافس اقتصاديا. كانت المواجهة الأيديولوجية بين الطرفين عنيفة،كان هناك ستار حديدى وتنافس بين النظامين. تم تقسيم العالم إلى معسكرين وحلفين عسكريين كبيرين يمتلك كل منهما ترسانة من الصواريخ النووية الموجهة إلى الطرف الآخر. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتى مرت العلاقة بين روسيا والغرب بتحول كبير من الحب إلى الكراهية. فى البداية لاحت فرصة لقيام تحالف بين الطرفين.
لم يكن لدى روسيا أي مطامع اقليميه في الاتحاد الاوروبي. أما العقول الأوروبيه فكان يتوجب عليها أن تفهم أن إقامه تحالف مع الدول الكبرى فى أوروبا والعالم من شأنة أن يدعم الاقتصاد والأمن في القاره الأوروبيه. وسيكون من الايسر على أوروبا إذا ما تعاونت مع روسيا التغلب على التحديات العالميه. لماذا إذن لم يظهر بعد انتهاء الحرب البارده كيان جديد يحمل اسم أوروسيا (أوروبا- روسيا) بل على النقيض بدلا من ذلك ظهر كيانان متناحران متصارعان: الحلف الاطلسي والحلف الاوراسي؟
من الأسباب التي أعاقت تأسيس الدوله القاره أوروبا قرار الغرب بتحويل انتصاره في الحرب البارده إلى أيديولوجيه للاحتفال بالنصر المعنوي. أضحت أوروبا الغربيه ترسم مستقبلها بالتعاون مع الولايات المتحده الامريكيه الاقرب إليها وليس مع روسيا، في حين رفضت روسيا النموذج الغربي وقدمت مشروعا لبناء (أوروبا جديده) مما أثار مخاوف الغرب نظرا لطابعه المحافظ بشده.
عقده المئات من المؤتمرات التي نظمتها المعاهد البحثيه الغربيه والمؤسسات العلميه المختلفه خلال التسعينيات والعقد الاول من القرن الحادي والعشرين. شاهدت هذه الفعاليات قدرا كبيرا من التفاهم المتبادل غير أن أعضاء الوفود الروسيه المشاركه دائما ما كانوا يجدون أنفسهم محاصرين بالتساؤلات من قبيل: لماذا تغيب الديمقراطيه في روسيا؟ وغالبا ما كان يدعى إلى هذه المؤتمرات الباحثون الروس المناهضون للكرملين والذين كانوا يدعمون التوجه الى الغرب. ثم اختفى التفاهم بين الطرفين، وتحولت السجلات البراجماتيه الى إتهامات متبادله ومشاعر غضب بين الطرفين.
ومما أثار دهشة روسيا أن شركائها وأصدقائها الغربيين سواء في قطاع الاعمال أو الدوائر السياسية سرعان ما تحولوا عنها بعد ضم القرم وإطلاق مشروع (روسيا الجديدة) التوسعى في شرق أوكرانيا. وعندما أنهالت العقوبات على روسيا وتم قمع أي معارض لفرض هذه العقوبات في الغرب. وأوصت الحكومة الألمانية رجال الأعمال الالمان برفض المشاركة في المنتديات والمؤتمرات الروسية. بدأت عمليه "صيد الساحرات" في المانيا حيث أخذت وسائل الاعلام ترمي بمختلف الاتهامات ضد كل من تجرأ بالحديث بشكل إيجابي عن روسيا.
تحولت أوروبا فجأة الى ساحة للصراع. ولكن من عساها ان تكون أوروبا؟ هل هي فضاء جيوسياسي؟ ام منظومة أمن؟ ام تراث ثقافي؟ أم الاقتصاد الأقوى في العالم؟ أم هي ناد للقيم الليبرالية؟ أو هي رغم كل شيء متحف للتاريخ؟ أن صوره أوروبا تختلف بين أمريكا وروسيا وتركيا وبولندا وأوروبا الغربية. ولفهم الخلاف الراهن يجب التعرف على هذه الرؤية جميعا.
على مدى ربع قرن تجاهل الغرب بالمساعى الروسية للتكامل في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي وفي بعض الأحيان وضع العراقيل أمام ذلك. فيما تعاملت روسيا مع قواعد اللعبة التي سبق أن وافقت عليها بعد انتهاء الحرب الباردة. وقد كشفت الازمه الماليه العالميه ومشكلات اللاجئين وحاله الضعف التي أصابت المؤسسات السياسية الأوروبية عن هشاشة الغرب وأن قواعد وأسس النظام الليبرالي ليست راسخة تماما. كانت حالة الضعف تلك المفاجأة غير سارة بالنسبة للغرب.
وقد قبل على مضض بفكرة إنشاء أوروبا أخرى التي طرحتها روسيا والتي حظيت ببعض التعاطف من قوى يمينية ويسارية في الاتحاد الأوروبي. وهكذا بدت العلامات نشوب حرب باردة جديدة على أرضية هذه الخلافات والتناقضات الايديولوجية.فهل دخلت أوروبا من جديد مرحلة التنافس بين الأنظمة والرؤى المختلفة للعالم؟
ثم كان عام 1989 الذي شاهد تحولا كبيرا في العالم والقارة الأوروبية حينما سقط جدار برلين. حلت خريطة باريس لأوروبا الجديدة محل مؤتمر يالطا، وكان هدفها بناء أوروبا على أساس القيم الليبرالية الغربية والقضاء على مناطق النفوذ السوفيتيه. وطرحت أمريكا فكره هائله تتمثل في أن التاريخ العالمي لم يعد بحاجة إلى إيديولوجيات جديدة. فالانسانية حققت النعيم والجنة على الأرض. ولم يكن الأوروبيون يوما ما أكثر رغدًا في العيش كما هم الآن. لقد تم تجريب كل الأفكار في الماضي والقائها في مزبلة التاريخ في حين بقيت الليبرالية تصلح للعيش قرونًا طويلة ولا يمكن أن يتفتق العقل الإنساني عن فكرة أفضل منها. ووجدها الغرب فرصه سانحه لا تعوض في أن يقوم ببناء نظام أوروبي قادر على البقاء لألف عام قادمة تحت لواء أمريكا. وللحديث بقية
آراء حرة
شـواطئ.. روسيا والغرب.. لمن الغلبة؟ (1)
تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق