الأحد 22 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

مصطفى بيومى يكتب: نبش في الذاكرة.. رموز من المنيا

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

طه حسين.. عميد الأدب العربى


صيف العام ١٩٧٢، بعد أيام من نهاية امتحان الشهادة الإعدادية، تبدأ العلاقة مع طه حسين عبر بوابة كتابه "الأيام"، السيرة الذاتية الروائية التى تزدحم بفيض من المواقف والمشاعر المؤثرة، وتتسم بلغة فريدة ذات إيقاع موسيقى ساحر، لا يعوقنى عن التواصل معها صعوبة بعض المفردات.
جانب من إعجابى المبكر بالدكتور طه حسين، قبل أن أقرأ له حرفًا، يعود إلى المحافظة الواحدة التى يجمعنا الانتماء إليها: المنيا، فهو من الأعلام والعلامات الذين يُشار إليهم دائمًا عند الحديث عن التاريخ المحلى الحافل، مثله فى ذلك مثل الشقيقين مصطفى وعلى عبدالرازق، والسيدة هدى شعراوي، والفنان عبدالعظيم عبدالحق، والدكتور لويس عوض، فضلًا عن "ابن المنيا البار" المشير عبدالحكيم عامر، قبل أن يُمحى اسمه من سجل الإشادة بعد انتحاره أو نحره فى أعقاب هزيمة يونيه ١٩٦٧.
بعد ما يزيد قليلًا على العام، كانت حرب العبور فى أكتوبر ١٩٧٣، ورحيل عميد الأدب العربي، لقبه الشائع، بعد أيام قلائل من نهايتها. عندما نُشرت قصيدة نزار قبانى النونية فى رثائه، كنت أرددها بصوت عال كل يوم حتى حفظتها، متوقفًا عند البيت الذى يقول فيه:
فى كتاب الأيام نوع من الرسم
وفيه التفكير بالألوان..
أعود إلى "الأيام" مجددًا، وأبحث فى صفحاتها عن مزيد من جوانب العظمة فى شخصية طه حسين، مدركًا قدر طاقتى على الفهم أن موقفه من التعليم الدينى والأزهر هو الأهم والأخطر والأجرأ فى شهادته الفنية الموضوعية.
من مكتبة المدرسة الثانوية قرات كتابيه: "الفتنة الكبرى"، "وعلى وبنوه"؛ ومن يومها لا يغادر قلبى شعور العداء الأصيل لبنى أمية، ويهيمن الانحياز العقلى والعاطفى للإمام الحسين. فى الفترة نفسها، قرأت "على هامش السيرة" و"الشيخان" و"الوعد الحق"، فضلًا عن كتاب مدرسى مقرر فى اللغة العربية: "حافظ وشوقي".
فى سنوات تالية، التهمت كل المتاح من كتبه، وقرأت الكثير مما كُتب عنه بالسلب والإيجاب. مقدمته لمجموعة يوسف إدريس "جمهورية فرحات" تكشف لى عن الكثير من ملامح شخصيته وأسباب ريادته، وأفكاره الجريئة العميقة فى "مستقبل الثقافة فى مصر" تشكل منهجًا مهمًا دفعت مصر ثمنًا فادحًا لأنها لم تأخذ به، ويوم قرأت "ألوان" أدركت كم أنه مستنير تقدمى عصرى سابق لأبناء جيله، ومتابع دءوب لكل جديد فى ساحة الثقافة العالمية، كأنه شاب ثورى مغامر يلتمس السبيل إلى معرفة حقيقية يواكب بها إيقاع الحياة التى لا تتوقف عن التطور.
بخلاف الكثيرين من محبى الكتابة الروائية والقصصية لطه حسين، لا أحمل إعجابًا خاصًا بـ"دعاء الكروان" و"المعذبون فى الأرض"، ذلك أن ولعى غير المحدود ينصب على "أديب". لا أبالغ عندما أقول إن روايته هذه ذات أثر خطير فى حياتي، فمنذ القراءة الأولى لها أجد نفسى فيها وأقرأ مستقبلي. هوسى بالأدب حقيقة أقرّ بها ولا أنكرها، والأولوية المطلقة عندى للنص الذى أستغرق فيه وأقيس العالم المحيط بى على ضوئه. أفكر أحيانًا أن الجنون هو نهايتى المنطقية، وإن أسعفنى الحظ ولم أصل إلى محطته الكابوسية المرعبة، فلا أقل من الاكتئاب المزمن الذى يقف على حافة الجنون.
أستعيد السنوات التى عشتها فأجد أننى أنفقت جلها فى القراءة والكتابة، متوهمًا أنهما الأداتان الضروريتان اللتان تعينان على معرفة الحياة وتمهدان للاستمتاع بها، لكن العمر يهرول ويقترب من نهايته، وها أنذا واقف بلا مكان، دون فهم أو استمتاع.
فى جيل الرواد، يحتل طه حسين المرتبة الثانية فى قلبي، بعد إبراهيم عبدالقادر المازني، وقبل الدكتور هيكل وسلامة موسى. تقديرى كبير لمنهجه العلمى من ناحية ومواقفه الشجاعة الجريئة من ناحية أخرى.
لا أنسى صدامه العنيف مع رئيس الوزراء إسماعيل صدقي، ورفضه العنيد أن يمنح درجة الدكتوراه الفخرية لعدد من الشخصيات السياسية البارزة، كان منهم الفقيه الدستورى العالمى عبدالعزيز فهمي، وهو رجل ذو قيمة علمية وثقافية تفوق عشرات الدرجات والألقاب، لكننى عشت فى زمن رديء مسخ، تُهدى فيه الدكتوراه من أعرق جامعات مصر لبعض الأوباش الأدعياء الذين لا يتقنون القراءة والكتابة.
تتراجع مصر بسرعة الصاروخ فى شتى المجالات، وتتدهور ثقافتها فتهوى إلى الحضيض. المقارنة بين العشرينيات والثلاثينيات وما نعيشه الآن وفى عقود سابقة، منذ السبعينيات تحديدًا، يكشف عن الفارق الشاسع بين زمنين ومناخين. لا أستطيع أن أتخيل رد فعل طه حسين إذا قُدر له أن يعيش ويمتد العمر ليسمع وزير العدل ورئيس مجلس النواب وهما يمزقان اللغة العربية تمزيقًا، ولا يخلو سطر ينطقه أحدهما من أخطاء كارثية فادحة، وكذلك الأمر مع وزير التعليم!.
فى شبابه ومطلع رجولته، ينتمى الثائر الفكرى المتمرد على الثوابت الآسنة إلى حزب الأحرار الدستوريين، ومع الكهولة والشيخوخة ينتقل العجوز إلى الوفد ويبدو أقرب إلى اليسار، لكننى لا أخفى استيائى وغضبى من مواقف العملاق الرائد بعد يوليو ١٩٥٢، فهو الذى يرفض ما يقوله الضباط عن "حركتهم المباركة"، ويأبى إلا أن يسميها ثورة، وهو من يتغاضى عن عداء النظام الجديد للحريات وعصفه بالديمقراطية. يقترب من عبدالناصر ويقول عنه ما كان يردده فى مدح فاروق، وينتقل الرجل من قيادة كتيبة التمرد إلى زعامة التأييد والمهادنة وتبرير ما لا يمكن تبريره.
دخول المثقفين إلى حظيرة النظام، قبل يوليو ١٩٥٢ وبعدها، يتحول إلى قانون عام لا يفلت منه إلا عدد قليل محدود، وهذا الانصياع هو ما يحول دون قيادة حقيقية لمجتمع ممزق بين اختيارين كلاهما مر: استبداد السلطة التى تؤمم العقل، وشبح الحكم الدينى الذى يلغى العقل تمامًا!.

طه حسين

 

سناء جميل.. ظاهرة استثنائية

لم أكن أعرف الاسم الحقيقى لجارتنا أم عادل، ولها من الأبناء أيضًا: سامى وسامية وسمير. كانت تعاملنى كواحد من أولادها، دون نظر إلى اختلاف العقيدة الدينية. أتأمل صورتى المسيح والعذراء فى صالة شقتهم مأخوذًا بالسحر الغامض، وما من مرة أرى فيها الفنانة العظيمة سناء جميل، إلا وأستعيد تلك الأيام البعيدة البعيدة فى منتصف الستينيات، فهما متشابهتان، سناء وأم عادل، فى الجسد والملامح، ويجمعهما أيضًا ذلك المزيج البديع الذى أحبه من القوة والرقة والحسم والحنان.
سناء جميلة ممثلة عالمية بكل ما تعنيه الكلمة، وقد قرأت "بداية ونهاية" ثلاثين مرة على الأقل، وفى كل قراءة يطالعنى وجه سناء وأنا أتابع رحلة التعيسة نفيسة، كأنها تسير فى درب الآلام بلا صليب.
سناء متعددة الوجوه بلا نشاز، مقنعة فى كل ما تؤديه من أدوار متناقضة. العانس الفقيرة بلا جمال فى "بداية ونهاية"، هى الريفية الثرية القوية المتسلطة فى "الزوجة الثانية"، وهى أيضًا المثقفة المتفلسفة فى "المستحيل". لا مشترك بين هذه الشخصيات المتنافرة المتعارضة إلا عبقرية سناء ووعيها الخارق بأبعاد الدور الذى تجسده. مثل هذا الإخلاص فى استيعاب الجوانب المعقدة المتشابكة لا يتكرر كثيرًا فى تاريخ التمثيل المصري، حيث تسود النمطية ويتكرر الأسلوب ويقتصر الأمر على ترديد كلمات الحوار فى افتعال مصنوع، دون مشاركة حقيقية من الوجه ولغة الجسد، فضلًا عن الأعماق البعيدة التى لا تُرى ولا تلتقطها الكاميرا، لكنها لا تغيب عن إحساس المشاهد.
كنت منياويًا متطرفًا فى طفولتي، أسعد وأنتشى بمن ينتسبون إلى المنيا من القادة والنجوم، بدءًا من نفرتيتى والمشير عبدالحكيم عامر إلى الممثل الشاب نور الشريف المتألق فى مسلسل "القاهرة والناس"، مرورًا بمصطفى عبدالرازق وعبدالعظيم عبدالحق وتوفيق الدقن وسناء جميل، لكن الأخيرة تحتل مكانة خاصة لأنها تشبه جارتنا القوية الحنون التى أحبها وأصادق أبناءها. فى المسرحية التى يعرضها التليفزيون: "زهرة الصبار"، أشعر كأن أم عادل هى التى تقوم بدور الممرضة، وفى مشاهدتى الأولى لفيلم "٢/١ ساعة جواز"، أبحث فى وجه شادية عن ملامح سناء وجارتنا الطيبة فلا أجد شيئًا. كم كنت أتمنى أن تكون سناء جميل بطلة الفيلم، لكن لشباك التذاكر معاييره التى لا تحترم أحلام الأطفال والمراهقين.

قليلة أفلام سناء جميل، التى لا تنفرد بالبطولة المطلقة فى أى منها، لكنها بارعة فى السيطرة والاستحواذ، متفوقة بأميال على من يحيطون بها من نجوم الرواج الجماهيري. قد يُقال إنها بعيدة عن الجمال، لكننى لا أستوعب ما يقولون، ذلك أن المعيار الذى يحتكمون إليه لا يتجاوز ملامح الوجه ونعومة الشعر وإثارة الجسد. مفهوم سطحى ساذج لا يعنى لى شيئًا، وسناء عندى ذات أنوثة طاغية وإحساس عارم متوهج بمعنى المرأة كما ينبغى أن يكون. إنها ممثلة عبقرية فى المقام الأول، فما الذى يعنيه أن تكون جميلة على طراز مريم فخر الدين، ولا صلة تجمعها بفن التمثيل؟.
بفضل الدراما التليفزيونية تصل العظيمة سناء جميل إلى ذروة الشعبية وتستوطن قلوب الملايين، أولئك الذين يجدون فى الشخصيات التى تقدمها نماذج حقيقية صادقة يصادفونها فى الحياة اليومية، وتزداد توهجًا بالنظر إلى التنوع والتباين والاختلاف فى الملامح والسمات. قرب نهاية الثمانينيات، وهى على مشارف الستين، تقدم دورًا خالدًا فى رائعة "الراية البيضا" لأسامة أنور عكاشة ومحمد فاضل. المعلمة فضة المعداوي، التى يتحول اسمها إلى جزء من نسيج اللغة المتداولة، عنوان مرحلة يقودها السادات لتدمير الهوية المصرية. لا يستطيع من يتابع تاجرة السمك، الجاهلة السوقية المتغطرسة، إلا أن يجزم بأن سناء جميل قد عاشت عمرها كله تتاجر فى السمك والابتذال، لكن المشاهد نفسه، فى منتصف التسعينيات، يراها أرستقراطية عصبية متأنقة، تسعفها اللغة الفرنسية أكثر من العربية، فى المسلسل الاجتماعى المرح: "ساكن قصادي". من الذى يزعم أن السيدة سناء لا يمكن إلا أن تكون ربيبة قصر، وابنة طبقة ارستقراطية ثرية ينحدر بها الحال فتقبع فى أحضان الطبقة الوسطى بلا اقتناع؟.
سناء جميل ظاهرة استثنائية فريدة فى تاريخ فن التمثيل المصري، وأزعم أن السينما لم تستثمر إلا أقل القليل من طاقتها، أما المسرح فى سنوات توهجه، النصف الأول من ستينيات القرن العشرين، فقد أهمل موهبتها الفذة، والأمر نفسه مع المسلسلات التليفزيونية، المأوى الأخير بعد انهيار السينما والمسرح وتراجع تأثيرهما.
أتخيل أحيانًا روعة العمل الذى تجتمع فيه مع قامة مثل محمود مرسي، ومخرج عبقرى مثل عاطف الطيب، وأفكر كثيرًا مسكونًا بالأسى والحسرة والغضب: كم نحن أغنياء بالمواهب العظيمة التى نتفنن فى إجهاضها، ثم نشكو من الفقر.
يأبى العام ٢٠٠٢ أن يرحل قبل أن تغيب سناء، بعد معاناة طويلة مزعجة مرهقة مع كابوس سرطان الرئة، ويأبى العام ٢٠٠٣ إلا أن يباغتنى فى أيامه الأولى بخبر مزلزل أعرفه مصادفة، فيطيح بالقليل الذى يتبقى من مخزون الذكريات الجميلة.
بعد أن غادروا المنيا فى نهاية الستينيات، لم أعرف شيئًا عن أم عادل وأبنائها، وكان يقينى المستقر أنها تعيش فى أحد أحياء القاهرة، محتفظة برونقها الذى لا يغادر مخيلتي، كأنها لا تخضع لقوانين الزمن. يا لهول ما عرفت: جيراننا القدامى فى كندا، والجميلة سامية، التى تشبه زبيدة ثروت، قعيدة لا تغادر المقعد ذا العجلات بعد حادث مروع، أما أم عادل فقد ماتت ودُفنت هناك، قبل عامين من لقاء المصادفة الذى يجمعنى بسمير. عرفني، لا أعرف كيف، وأنا أسير فى شارع طلعت حرب، ولم يكن وجهه إلا تعبيرًا مزعجًا عن فعل الزمن الذى لا يرحم. زيارته الأولى، ولابد أنها الأخيرة، بعد ربع قرن من الغياب. ينتهى الحوار القصير بيننا بكلمات أرددها دون أن أدري: ألا تعرف يا سمير أن سناء جميل قد ماتت أيضًا؟

عبدالعظيم عبدالحق

عبدالعظيم عبدالحق.. العملاق نحيل الجسد


مشهد لا أنساه فى الفيلم التليفزيونى "عندما يأتى المساء"، المأخوذ عن قصة قصيرة لنجيب محفوظ. العجائز أصدقاء العمر، عبدالعظيم عبدالحق وبدر نوفل وإبراهيم الشامي، يحيطون بفريد شوقى ويواسونه عند وفاة حماته. الحزن المصنوع المفتعل يكسو الوجوه المليئة بالتجاعيد، وعندما يعلن فريد عن عمر الراحلة، التى تبلغ من العمر عتيا، يعلق الصيدلائى الصعيدى أنطوان، بعفوية مرحة ذات نكهة ساخرة:
- مسكينة.. اتخطفت!
تنفجر الضحكات، ولا يملك المشاهد بدوره إلا أن يستغرق فى ضحك هستيرى يمحو به بعض الهموم التى تسكنه.
أحمل قدرًا هائلًا من مشاعر الحب والتقدير للأصدقاء الأربعة هؤلاء، يرحمهم الله جميعًا، لكن عبدالعظيم – أنطوان- أقربهم إلى قلبي. ليس لأنه مثلى من أبناء محافظة المنيا، وليس لأنه كان صديقًا مقربًا لأبى فى مرحلة من العمر، وليس لأنه ملحن الأغنية التى أعشقها وأدمن الاستماع إيها بصوت محمد قنديل من كلمات العبقرى الفذ عبدالفتاح مصطفى: "سحب رمشه ورد الباب"، وليس لأنه ممثل موهوب من طراز فريد لا يشبه أحدًا؛ بل لهذه الأسباب جميعًا.
فى سنوات الطفولة البعيدة البعيدة، تلك التى أشك أحيانًا كثيرة فى وجودها، كنت أتابع بشغف متطرف مسلسلًا تليفزيونيًا أسبوعيًا شهيرًا، يتقاسم عبدالعظيم، حسان أفندي، بطولته مع عقيلة راتب، الست حفيظة: "عادات وتقاليد". زوج تابع مطيع من ملاك الأرض، يعيش على ريعها بلا عمل، يرضى بطغيان الزوجة المتسلطة وتحكمها لأنه يحبها. يروق لى جسده النحيل الضئيل، وغضبه الاستثنائى النادر، ومرحه الكامن الذى يكشف عن الزهد فى العراك والصدام والخصام. بعيون اليوم والأمس القريب، حيث الوعى والنضج والقدرة على التقييم الموضوعي، يبدو المسلسل القديم ساذجًا تافهًا ركيكًا، لكننى لا أنسى شغفى به وحرصى على متابعته، ولا أنسى أيضًا مرارة الحسرة والشعور بالحرمان عندما ينقطع التيار الكهربائي، أو يحل ضيف ثقيل يستأثر بالقناة التليفزيونية الثانية.
عبدالعظيم عبدالحق، العجوز اللاهى المتصابى المتأنق فى "أرض النفاق"، والجد العصبى الأكثر عصرية وحداثة من ابنه فى "ليلة عسل"، وذو الجاذبية الآسرة التى تخطف العين فى أدوار أخرى صغيرة ذات مشاهد معدودة، أو ربما مشهد واحد.
فى "يوميات نائب فى الأرياف"، يقدم شخصية الشيخ عصفور كأنها كُتبت له، أو كُتبت من وحيه. نظرات عينيه العميقة الساخرة الفاضحة، وصوته الساحر المسكون بالوجع والشجن والحسرة فى غناء المواويل:
دور على النسوان. تعرف سبب الأحزان ورمش عين الحبيبة.. يفرش على فدان.
مفهوم السحر فى صوته يتجوز الشائع عن الجمال والقوة والعذوبة، ذلك أن البطولة للقدرة على التعبير.
لا غرابة فى انتباه شادى عبدالسلام إلى موهبته التمثيلية الخارقة فيستعين به فى "المومياء"، ومع المخرج الذى يسبق الزمان والمكان محلقًا خارج السرب، يتوهج عبدالعظيم ويتحول إلى عنصر أصيل فى منظومة العمل الراقى الذى يبدو غريبًا فى تاريخ السينما المصرية، وأقول لنفسى عندما أرى الفيلم وعبدالعظيم: طوبى للغرباء.
أفكر كثيرًا: كيف لصاحب لجسد النحيل الضئيل أن يظهر عملاقًا على هذا النحو؟!. وأصل ذات يوم إلى إجابة ترضيني: العملقة فى الأعماق وليست فى الشكل الخارجى طولًا وعرضًا.
لعبدالعظيم مكان ومكانة فى تاريخ الموسيقى المصرية. مئات الألحان، وموسيقى تصويرية لعشرات المسلسلات والأفلام، ومذاق شعبى طازج لا تصنع فيه أو ادعاء، وتبقى رائعته "سحب رمشه" ذات خصوصية على الصعيد الشخصى لا يتبخر أثرها، ذلك أنها تقترن فى قلبى بذكريات شتى. لا أسمعها يومًا إلا وأستعيد معها عالمًا كاملًا مندثرًا لا أصدق أننى عشته، ولا أصدق أيضًا أننى أضعته وفرطت فيه كما يليق بسفيه محترف.
ابن العائلة الريفية العريقة الثرية، شقيق الوزراء وقادة الأحزاب السياسية قبل يوليو ١٩٥٢. يتقلد مناصب وظيفية مهمة، ويجمع بين الموسيقى والتمثيل والفن التشكيلى وحب الحياة بلا حسابات عقيمة. الهواية مفتاح شخصيته، والبساطة سر تفرده. لا شيء يتغير فى جوهره الأصيل بعد عبور الثمانين، وها هو راكب الأتوبيس فى "الإرهاب والكباب" يصرخ فى السلبيين النمطيين المحنطين: جاتكو ستين نيلة!.
نعم أيها الجد الطيب: إننا نستحق لعناتك وندفع ثمنًا فادحًا للرضا بالقهر والهوان، والتمسك بحياة ماسخة نتوهم أنها الشيء الوحيد المتاح بلا بديل.
قبل شهور قلائل من وفاة توفيق صالح، استقبلنى المخرج الكبير فى بيته لثلاث ساعات متصلة. كنت أحاول إقناعه بالموافقة على تقديم شهادة مصورة عن مسيرة حياته فى برنامج أشرف على إعداده، فلم يتردد لحظة فى الرفض، لكنه تحدث معى طويلًا، وعندما تطرق الحوار إلى عبدالعظيم عبدالحق، الصديق الشخصى والعائلى الذى كان يسكن قريبًا منه، كشف لى عن جوانب كثيرة مجهولة فى حياة الفنان القدير الذى أحبه، ووعدته أننى لن أكتب شيئًا مما عرفته، وقد التزمت بما وعدت.
يغيب عبدالعظيم عبدالحق عن عالمنا بعد أربع سنوات تقريبًا من رحيل أبي، وكان يقينى الراسخ أنه لن يفكر يومًا فى الموت أو يخافه، فهو من ذلك الطراز الاستثنائى النادر الذى يعيش كأنه لن يموت أبدًا. مازلت أستمع إلى أغنيته فيغمرنى الوجع الجميل الذى يداوى ويطّهر:
سحب رمشه ورد الباب.. كحيل الأهداب
نسيت أعمل لقلبى حجاب.. وقلبى داب
آه وآه.. من لعنة ومتعة ذوبان القلوب!.


علي عبدالرازق.. الشيخ المثير للجدل


منذ الطفولة المبكرة، أحلم ببيت صغير ذى حديقة تضم أحواضًا من الزهور وبعض أشجار الفاكهة، أما السور فأراه دائمًا متوسط الارتفاع، والأفضل أن يكون خشبيًا، يغطيه الياسمين وتفوح فى ليالى الصيف رائحته العطرة. منزلنا فى القرية التابعة لمركز بنى مزار، ذو حديقة خلفية، تبدو لعينى الطفل الذى كنته واسعة رحيبة، لكنها تصغر كلما أكبر.
على الرغم من سيطرة النزعة الصوفية على أبى بعد فترة قصيرة من هزيمة يونيه ١٩٦٧، فقد كان حريصًا على شراء مجلتى "الطليعة" و"الكاتب" مطلع كل شهر. لم يكن تقليبى فى الصفحات مجديًا لصعوبة المقالات والدراسات ذات الطابع السياسى الفكرى التاريخى الثقيل، وعندما نشرت "الطليعة" كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ على عبدالرازق، كان البنط الصغير المرهق أول ما أثار اهتمامي.
من المنطقى أن يفشل طالب المرحلة الإعدادية فى التواصل مع دراسة الشيخ، الذى تنتمى عائلته العريقة الثرية إلى قرية قريبة من قريتنا، لكننى عدت إلى بحثه بعد سنوات فالتهمته التهامًا، ووجدت فيه إجابات منطقية مقنعة مشبعة عن أسئلة تراودنى وتحتاج إلى الحسم.
فترة غير قصيرة من حياتي، انشغلت فيها بدراسة المرحلة الليبرالية فى مصر والكتابة عنها، وعملت أعوامًا فى ملف الإسلام السياسى والتنظيمات الإرهابية. كنت أعود كثيرًا إلى كتاب الشيخ على والتداعيات المترتبة عليه، ومنذ القراءة الأولى فى منتصف سبعينيات القرن الذى مضى، إلى القراءة الأخيرة قبل شهور قلائل، أجد فى اجتهاد على عبدالرازق إنجازًا فكريًا رائدًا، وأرى فى الأفكار التى يبشر بها ما يستدعى الموافقة والتأييد والإعجاب: الدين يشتبك مع الحياة دون السياسة، الإسلام لا يضع شكلًا محددًا لنظام الحكم، الخلافة فكرة وممارسة بشرية بلا قداسة.
كل هذا رائع بلا شك، لكن الأروع هو المناخ الجديد الذى كانت تتهيأ له مصر بعد سنوات قليلة من ثورتها الشعبية العظيمة، فأين تلك السنوات البعيدة من أيامنا هذه، حيث الأحزاب الدينية العلنية التى يحرمها الدستور، وحيث السجن فى انتظار من يجتهد أو يفكر فى إعمال العقل؟!.
قرأت كثيرًا من الردود العنيفة الحادة التى تسعى إلى تفنيد أفكار على عبدالرازق، ولم يحل عدم اقتناعى بها دون سعادتى بالمناخ الذى يتسع لكل الأفكار المتعارضة المتناقضة، لكن الموقف الرسمى لمؤسسة الأزهر وهيئة كبار علمائه، كان تعبيرًا عن حقيقة لا يتراجع إيمانى بها، بل إنه يزداد يومًا بعد يوم: الأزهر عدو دائم لحرية الفكر والإبداع والعقيدة، ويصر على احتكار ما يتوهمه صوابًا ويقهر المعارضين له. هكذا هو من قاسم أمين ومنصور فهمى وعلى عبدالرازق وطه حسين، إلى نصر حامد ابو زيد وفرج فودة وأحمد صبحى منصور وسيد القمني، وصولًا إلى إسلام بحيري، مرورًا بخالد محمد خالد ونجيب محفوظ.

الشيخ علي عبد الرازق

على الصعيد الشخصي، أختلف مع أفكار كثير من هؤلاء، وتسفيه أفكارهم ورؤاهم ليس جريمة فى إطار التعددية، لكن الكارثة تكمن فى الوصاية والتخوين والتفكير، وفى الحرص على إجهاض حرية الفكر وحق الاختلاف، تحت مظلة شعارات ماسخة مراوغة مثل الثوابت والخطوط الحمراء والخصوصية، وغير ذلك من الترهات.
الدين، عندي، رسالة روحية سامية، وعلاقة شخصية بين الله والإنسان. إنه أداة ضرورية لتنظيم الإيقاع وفق مبادئ وقواعد أخلاقية لا يختلف حولها أحد، ووفق هذه الأطر نولد ونتزوج ونُدفن، ونتعلم مكارم الأخلاق ومعنى الضمير، ونصلى ونصوم ونزكى ونحج، لكن الدنيا لا تقتصر على الدين وحده، والحياة فى سياقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية مسئولية البشر. عندما أعود إلى صحف ومجلات العشرينيات، أجد من يدافع عن الشيخ لأنه يؤيد أفكاره، ومن يدافع لأنه يؤمن بحرية الفكر، وأجد أيضًا وفرة من المعارضين، القليل مهم يجادل بالحسنى، والأغلبية تتطاول وتشكك وتستخدم لغة محاكم التفتيش.
لم أقرأ لعلى عبدالرازق إلا كتابه الشهير الذى لا ينتهى الجدل حوله، والمثير للدهشة بحق أننى وجدت من ينسب تأليف الدراسة المزلزلة إلى طه حسين، مستعينًا فى زعمه بشهود وهميين يؤكدون اعتراف الشيخ نفسه بأن اسمه قد وضع على الكتاب دون أن يدري!. المأساة ليست فى الكذب الصريح الفاجر المفضوح فحسب، بل إنها أيضًا فى الجهل الفاضح الفادح الذى لا يميز بين لغة الشيخ الرصينة المحكمة، ولغة الدكتور طه ذات الجماليات الخاصة التى لا يصعب اكتشافها وسط عشرات الأساليب.
يمتد العمر بالرجل حتى يقترب من الثمانين، وإلى الرمق الأخير فى حياته يتمسك بالأفكار الواردة فى كتابه دون تراجع كما يروج بعض من يكذبون كما يتنفسون، باسم الدفاع عن الإسلام وحماية ثوابته. لم يكن الأمر فى حقيقته إلا معركة سياسية بعد سقوط الخلافة التركية، وتطلع الملك أحمد فؤاد إلى المقعد ذى القداسة والنفوذ الروحى غير المحدود، وما الدفاع عن الدين إلا قميص عثمان.
تنتمى عائلة عبدالرازق، فاحشة الثراء ومالكة آلاف الأفدنة، إلى قرية "أبو جرج" القريبة جدًا من قريتنا. فى طفولتى ومراهقتى وشبابى المبكر، كنت عظيم الإعجاب بالطراز المعمارى لقصر العائلة، المحاط بحدائق غناء شاسعة المساحة. كنت، ومازلت، أرى فى البيت الصغير ذى الحديقة حلمًا أتطلع إليه. لا أريد قصرًا وحديقة تُقاس مساحتها بالأفدنة، والطموح كله ينصب على منزل جدرانه بيضاء، وأحواض من الزهور، وأشجار فاكهة، وسور متوسط الارتفاع أفضّل أن يكون خشبيًا، ويا له من عالم منعش قوامه مزيج نادر من الهدوء والخضرة ورائحة الياسمين.
أقتنى عدة طبعات من كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، وأحتفظ أيضًا بالعدد القديم من مجلة "الطليعة"، الذى قرأت فيه كتاب الشيخ أول مرة.
يعيدنى الغلاف الذى يقترب من التآكل إلى زمن قديم لم يعد له وجود إلا فى الذاكرة، وأستعيد عند مرآه حلم البيت ذى الحديقة، ويطل أيضًا قصر آل عبدالرازق وحديقته الغناء.