ظل السيناريست البارع عاطف بشاي يعاني أكثر من 15 عامًا من التجاهل المقيت، ولم ينتج له عمل درامي واحد طوال هذه السنوات، رغم امتلاكه موهبة استثنائية في تحويل القصص القصيرة والأفكار الكاريكاتورية إلى دراما بديعة من لحم ودم، يشهد على ذلك أعمال رائعة مثل أفلام "فوزية البرجوازية"، و"محاكمة علي بابا"، و"الوزير جاي"، وغيرها الكثير. وفي الدراما التلفزيونية "يا رجال العالم اتحدوا"، لم يكن عاطف بشاي يكتب في الكوميديا فقط – رغم صعوبتها - بل برع أيضًا في أعمال من نوعية مسلسل "لا" المأخوذ عن رواية لمصطفى أمين، ومسلسل "حضرة المحترم" المأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ.
ومات عاطف بشاي، لتنتج البكائيات عنه صفحات وملفات وسيل من الرثاء والتمجيد والتفخيم، وهكذا ينزل الراحل إلى قبره، ليصدق المثل المصري العميق والمستخلص لأحد العجائب في أركان وجداننا السري: "بعد أن ذهب للمقبرة، بقي سكره".
وأرى أن الزمن تجاوز السكر بكثير، فأصبحنا ننهل من عسل الموتى. والولع بالموتى يفوق الحنين ووجع الفقد إلى مراتب التقديس، ما بين إرث ديني وآخر سياسي، يؤدي إلى تجاهل تكريم الأحياء، وقد يرى البعض في ذلك جزءًا من النفاق وتحقيق المصالح والمجاملات الرخيصة، في حين أن تمجيد الأموات ورفع أقوالهم وأفعالهم معهم في السماء، فذلك أفضل كثيرًا، وهذه هي عين المأساة بحق السماء.
والذي يدقق ويتابع نماذج هذا التقديس يجد تناقضات وسخريات تشل الحياة نفسها. فهناك من يدرك هذا الهوس بتقديس الراحلين ويستغل الفرصة ليعد لنفسه خلودًا في النفوس، فتجد بعض رجال الدين، وخاصة الأساقفة، ينفقون الملايين لتجهيز قبورهم برخام مستورد "الإيطالي مفضل عندهم"، ويزينون مزاراتهم بصورهم المذهبة، بل ويصممون البراويز التي ستضع فيها أبيات المدائح والتماجيد لذواتهم المتواضعة. ويا للهول على هذا التواضع، الذي يضلل النفوس والأنفاس. وأنت لا تجد واحدًا منهم، ولا الآلاف من أتباعهم، بدلًا من الصرف والتبذير لبناء مزارات لعظامهم، أو على الحنوط والزهور التي هدفها إخفاء رائحة الموت، يقررون بناء مدرسة أو ملجأ أيتام أو حضانة أو مستوصف ولو تحمل أسماء الراحلين لتحقيق فائدة للأحياء وتخليد اسم الراحل. أليس هذا أفضل من المحاولات المستميتة لإخفاء حقيقة الموت بعبث مخجل؟ لكن عسل الموتى يسكر العقول، فيشرب منه الأتباع بلا ارتواء ولا شبع، فمع بناء المزارات والقبور المبيضة تتم على التوازي عملية تبييض لسيرة الراحل ووضع كل الصفات الحسنة فيه.
لعل ذلك جانب أسطوري يجنب الأحياء شر الميت الذي أصبح في عالم آخر، فعندما تصدر كتب أو مقالات تقيم الراحل، سواء في أقواله أو أفعاله أو كتبه، يرفضون ذلك ويعتبرونه إنكارًا للجميل بل وقلة أصل، فقد ترجل الراحل، وعيب أن تهاجم راحلًا، وكأنَّه أخذ حصانه بموته، وإذا اكتشفت معلومات جديدة عنه أو قرأت بعد نضج ما كتب بعين أخرى أو عرفت ما لم تكن تعرف، عليك بالصمت وشرب عسل الموتى، وأنت ساكت رغم التلزيق و"موعان" النفس.
لذلك نعاني وفي مجالات كثيرة من موتى يحكمون حياتنا بالفتاوى والروايات وأقوال الآباء من آلاف السنين، سواء كانوا سلف صالح أو غير صالح، وقديسين مزيفين أو حقيقيين. وإذا طالبت بتجديد وتنقية وغربلة تراثهم، ترمي نفسك في النار، فما زالت بوصلة قبورهم تقود حياتنا.
إفيه قبل الوداع:
"يا نهار أبيض.. إنت كلت المتوفي؟"
"لا والنبي يا معلمي، إلهي أطفحه بالسم ما دوقته."
"أمال إيه الدم اللي على بوقك ده؟"
"دي مربى يا معلمي، مربى."
(فيلم حماتي ملاك)
“مش مربي، ده عسل الميت لازق على عقلي”.