الأحد 22 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

سامح قاسم يكتب: خيري شلبي.. حارس المدن المنسية

خيري شلبي
خيري شلبي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في مشهد الأدب المصري والعربي، يظهر خيري شلبي كواحد من أبرز الكتاب الذين استطاعوا التقاط نبض الحياة اليومية وصياغة تفاصيلها بأسلوب يمزج بين البساطة والعمق. يعد شلبي من السرد الواقعي الذي يلامس وجدان القارئ، وهو كاتب استطاع أن يضفي على السرد طابعًا شعبيًا أصيلًا، متجاوزًا حواجز الفصحى والعامية. إن أسلوبه الفريد الذي يعتمد على حكايات الأرياف والمدن المنسية، ومزجه بين الواقعي والخيالي، جعله من أكثر الأدباء تأثيرًا في الأدب المصري الحديث.

ولد خيري شلبي الذي تحل ذكرى وفاته الثالثة عشر هذه الأيام، في 31 يناير 1938، في قرية شباس عمير بمحافظة كفر الشيخ، وقد انعكس هذا الانتماء الريفي في مجمل أعماله الأدبية. كانت تلك البيئة الزراعية الخصبة، بتقاليدها وأعرافها وأحزانها وأفراحها، الحقل الذي زرع فيه خيري شلبي بذور حكاياته. نشأته في الريف المصري قرب دلتا النيل منحته قدرة على استيعاب تفاصيل الحياة الريفية، وفهم العمق الروحي لتلك المجتمعات الصغيرة.

كانت بداياته الأدبية في منتصف القرن العشرين، حيث تأثر بتيار الواقعية السحرية، لكنه سرعان ما تمكن من خلق بصمته الخاصة، التي تمتاز بالتداخل العميق بين السرد الواقعي والأساطير والحكايات الشعبية. خيري شلبي هو نتاج هذه البيئة الريفية التي تغذت على التقاليد الشفهية والحكايات الشعبية، واستطاع أن يحولها إلى أدب مكتوب يجمع بين الواقع والأسطورة، وبين المأساة والكوميديا.

 الواقعية الاجتماعية والحكايات الشعبية

من بين أبرز السمات التي تميز خيري شلبي هي واقعيته الاجتماعية. إن وصفه الدقيق لحياة الناس في الريف والمدن الصغيرة يعكس إحساسًا عميقًا بالحياة، ليس فقط على مستوى الأحداث الكبرى، بل أيضًا على مستوى التفاصيل اليومية البسيطة. إن اهتمام شلبي بالتفاصيل الدقيقة للحياة الاجتماعية هو ما جعل أدبه يتسم بصدق حقيقي. فهو ينقل بأمانة تجربة الطبقات الدنيا في المجتمع المصري، لكنه لا يقع في فخ المبالغة أو الكآبة.

في روايته "وكالة عطية" (1992)، التي تعد واحدة من أبرز أعماله، يعكس شلبي الحياة الهامشية في القاهرة، حيث يعيش الفقراء والمهمشون في ظروف قاسية. ورغم ذلك، فإنه يقدم صورة عميقة ومعقدة لهذه الشخصيات، حيث يظهرهم في صورة بشرية مكتملة، لهم أحلامهم وآمالهم، وكذلك إحباطاتهم ومعاناتهم. في "وكالة عطية"، يقول شلبي:

"لا يمكن للإنسان أن يعيش بلا أمل، حتى في أحلك الظروف. فكل شخص يحمل في داخله بذرة من الضوء، تنتظر الفرصة لتنبت."

هذه النظرة المتفائلة للإنسانية رغم كل الصعاب تعكس فلسفة شلبي التي تمزج بين الواقعية والتفاؤل. لقد كان يرى أن البشر، مهما كانت ظروفهم، لديهم القدرة على تجاوز محنهم وإيجاد معنى للحياة.

العلاقة بين الواقعي والخيالي

أحد الأبعاد الهامة في أدب خيري شلبي هو المزج بين الواقعي والخيالي. في أعماله، نجد تلك العلاقة المعقدة بين الحياة اليومية والحكايات الشعبية والأساطير. ففي روايته "الوتد" (1984)، التي تدور حول عائلة ريفية مصرية، يستخدم شلبي التراث الشعبي والأساطير لتفسير الواقع الاجتماعي والسياسي. يتجلى هذا بوضوح في وصفه لشخصية "فاطمة تعلبة"، الأم القوية التي ترمز إلى الأم المصرية، والتي تمثل استمرارية الحياة والثبات في وجه التغيرات الاجتماعية والسياسية. يقول شلبي في "الوتد":

"فاطمة تعلبة لم تكن مجرد امرأة عادية، كانت جذور الأرض نفسها. هي التي تربط بين الأجيال، بين الماضي والحاضر، وتمنح الحياة لأسرتها كما تمنح الأرض خيراتها للمزارعين."

هذه الشخصية ليست مجرد رمز للمرأة الريفية، بل هي أيضًا تجسيد للقوة الكامنة في الشعب المصري، الذي يمتلك القدرة على الثبات والمقاومة رغم كل التحديات.

اللغة في أدب خيري شلبي

من أهم العناصر التي تميز أدب خيري شلبي هو لغته التي تجمع بين الفصحى والعامية. لقد أدرك شلبي أن العامية المصرية تحمل في طياتها عواطف وتجارب لا يمكن نقلها بالفصحى بنفس القوة. ولذلك، نجده يستخدم العامية ببراعة في حواراته، مما يمنح النصوص حياة وحيوية، ويجعل الشخصيات تبدو أكثر واقعية.

ولكن رغم اعتماده على العامية في حواراته، فإن السرد في أعماله غالبًا ما يكون بالفصحى الرصينة، مما يعكس قدرته على المزج بين الاثنين بطريقة طبيعية. يقول شلبي في إحدى مقابلاته:

"اللغة هي مفتاح الوصول إلى القلوب. إذا أردت أن تكتب عن الناس، فعليك أن تستخدم لغتهم، ولكن عليك أيضًا أن ترفع من مستوى اللغة لتجعلها أدبًا."

هذا النهج اللغوي المزدوج جعل أدب شلبي قريبًا من القراء، سواء كانوا من المثقفين أو من العامة، حيث يجد كل قارئ شيئًا يتفاعل معه في نصوصه.

البعد الصوفي في أدب خيري شلبي

بالإضافة إلى الواقعية الاجتماعية والحكايات الشعبية، نجد أن لأدب خيري شلبي بعدًا صوفيًا يتجلى في تأملاته حول الحياة والموت والمعنى الأعمق للوجود. ففي رواية "صالح هيصة"، نجد تلك التأملات الصوفية التي تتغلغل في النص. شخصية صالح هيصة تعيش حياة هامشية مليئة بالتناقضات، لكنه في الوقت نفسه يمتلك نوعًا من الفهم الروحي العميق للحياة.

يقول شلبي في "صالح هيصة":

"الحياة ليست مجرد ما نراه بأعيننا، بل هي ما نشعر به في أعماق أرواحنا. فصالح هيصة كان يبحث عن الحقيقة في كل شيء، حتى في الفوضى."

هذا البحث عن الحقيقة الروحية في وسط الفوضى الحياتية يعكس الفكر الصوفي الذي يتغلغل في بعض أعمال شلبي. فشخصياته، رغم بساطتها، تمتلك قدرة على التأمل في المعاني العميقة للوجود.

تأثير التراث الشعبي والأساطير

من الجوانب الأخرى التي تميز أدب خيري شلبي هو اعتماده على التراث الشعبي والأساطير في بناء عوالمه الأدبية. لقد نشأ في بيئة تغذيها الحكايات الشعبية والأساطير، وكان لهذا تأثير كبير على كتاباته. ففي روايته "الأوباش"، التي تدور حول شخصيات منبوذة تعيش على هامش المجتمع، نجد أن شلبي يستخدم الحكايات الشعبية كوسيلة لفهم الصراعات الاجتماعية والسياسية.

يقول شلبي في إحدى مقابلاته:

"الحكايات الشعبية ليست مجرد ترفيه؛ إنها وسيلة لفهم العالم. فهي تعكس حِكم الشعب وفهمه العميق للحياة."

في هذا السياق، يعتبر شلبي الأدب الشعبي مصدرًا غنيًا يمكن استلهامه لإضفاء عمق على الأعمال الأدبية. إن إدراكه للقوة الرمزية للحكايات الشعبية جعله قادرًا على تحويل قصص الناس العاديين إلى ملحمات أدبية.

لم يكن خيري شلبي يكتب فقط عن الريف والفقراء؛ بل كان أيضًا ناقدًا قويًا للطبقة الوسطى والنظام الاجتماعي في مصر. ففي روايته "زهرة الخشخاش"، يسلط شلبي الضوء على الفساد والانحلال الأخلاقي في الطبقة الوسطى المصرية، التي تمثل في رواياته القوة التي تحاول السيطرة على المجتمع، لكنها في الوقت نفسه تنخره من الداخل.

يقول شلبي في رواية "زهرة الخشخاش":

"الطبقة الوسطى دائمًا ما تحاول أن تخفي عيوبها، لكنها في النهاية هي التي تدمر نفسها بنفسها."

هذا النقد الاجتماعي يعكس رؤية شلبي العميقة للعالم من حوله، حيث كان يرى أن التغيرات الاجتماعية والسياسية تؤثر على جميع الطبقات، ولكنها تكون أكثر وضوحًا في الطبقة الوسطى التي تعاني من صراع دائم بين الحفاظ على تقاليدها والتكيف مع التحولات الحديثة.

إرث خيري شلبي وأثره على الأدب العربي

ترك خيري شلبي إرثًا أدبيًا هائلًا أثر بعمق على الأدب المصري والعربي على عدة مستويات، من حيث المحتوى السردي، الأسلوب، واللغة. لقد تمكن من تصوير حياة الطبقات المهمشة في الريف والحضر بمصداقية نادرة، كما منح صوتًا لمن لا صوت لهم. كانت قدرته على استكشاف قضايا الهوية، الصراع الاجتماعي، والتناقضات الطبقية بمثابة جسر بين القراء والنصوص الأدبية التي تتناول القضايا الاجتماعية المعقدة.

يقول الناقد الراحل إبراهيم فتحي عن خيري شلبي:

"لقد كان خيري شلبي صوتًا قويًا في التعبير عن الإنسان المصري البسيط، وقدم لنا صورة غنية ومتعددة الأبعاد عن الحياة المصرية، تخللتها الكثير من المعاني الإنسانية العميقة."

يمثل شلبي جسرًا بين جيلين من الأدباء: جيل الواقعية التقليدية، وجيل الواقعية الجديدة. على الرغم من اهتمامه بالتراث الشعبي، إلا أنه لم يتوقف عند هذا الحد، بل طوره وأضاف إليه بعدًا حداثيًا يجمع بين السحر والواقعية، وبين البسيط والمعقد. كان ذلك مظهرًا من مظاهر إبداعه المتفرد، حيث كان قادرًا على الجمع بين الأدب الشعبي التقليدي والحداثة الأدبية.

أثر خيري شلبي بشكل مباشر على الكثير من الكتاب المصريين والعرب، الذين تأثروا بأسلوبه وقدرته على المزج بين التقاليد الأدبية والتراث الشعبي. استطاع شلبي أن يخلق مدرسة أدبية خاصة به، لا تتعلق فقط بالموضوعات التي تناولها، بل أيضًا بالأسلوب الذي كتب به، مما جعله نموذجًا يحتذى به للكثير من الأدباء الشباب.

كما استلهم كثيرون طريقته  في نسج الحكايات البسيطة العميقة، ومنهم من كتب عن طبقات المهمشين بطريقة مشابهة لأعمال شلبي. كما أثر أيضا  على كتّاب الواقعية الحديثة الذين استخدموا الحياة اليومية  كمنطلق لاستكشاف قضايا أعمق تتعلق بالهوية والوجود.

حظيت أعمال خيري شلبي بتقدير واسع بين الأدباء والنقاد على المستوى المحلي والدولي. حيث تُرجمت بعض أعماله إلى لغات مختلفة، مما أتاح للقراء الغربيين فرصة الاطلاع على جزء من التراث الأدبي المصري العريق.

في هذا السياق، كتب أحد النقاد البريطانيين عن خيري شلبي بعد ترجمة روايته "وكالة عطية":

"شلبي يكتب بروح الحكاء القديم، الذي يعرف كيف يأسر القارئ في عوالمه الخاصة، مستخدمًا خيطًا رفيعًا بين الواقع والخيال. إنه حكاء بالفطرة، يستطيع تحويل أبسط الأحداث اليومية إلى قصة مليئة بالسحر والإثارة."

هذا الاعتراف الأدبي الدولي يعكس القيمة الفريدة لأعمال شلبي، التي نجحت في تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية لتصل إلى قراء من مختلف أنحاء العالم.

يكمن جزء كبير من إرث خيري شلبي في تأسيسه لما يمكن تسميته بـ"الواقعية الشعبية"، وهو تيار أدبي يجمع بين الواقعية الاجتماعية والسرد الشعبي والتراث المحلي. إن أعماله لا تزال تحتفظ بقوتها وجاذبيتها لأنها لا تعتمد فقط على الحكاية بحد ذاتها، بل أيضًا على الطريقة التي تُروى بها تلك الحكاية.

إن هذا المزج بين الواقع الاجتماعي والحكايات الشعبية أضفى على أدب شلبي صبغة خاصة، حيث لا تعيش شخصياته في عالم مغلق، بل تمتد جذورها إلى أعماق التاريخ والتراث. لهذا السبب، يُعتبر خيري شلبي كاتبًا ذو بعد تراثي عميق، حيث كان مدركًا لأهمية الربط بين الماضي والحاضر.

في روايته "صالح هيصة"، يعكس شلبي ببراعة ذلك البعد الشعبي في تصوير شخصية صالح، التي تمثل الهموم والآمال الشعبية. عبر الشخصية، نجد تلك الصلة الحية بين الإنسان الفرد والتراث الشعبي، حيث يقول في الرواية:

"الإنسان ليس إلا امتدادًا لظلال الذين سبقوه. كل خطوة نخطوها في الحياة، تشبه أثر قدم كان موجودًا هنا قبل أن نصل."

خيري شلبي لم يكن مجرد كاتب يكتب من الخيال أو يصور الواقع، بل كان بمثابة موثق أدبي للحياة الشعبية المصرية. من خلال أعماله، استطاع أن يسجل الكثير من العادات والتقاليد والحكايات التي كانت معرضة للنسيان. لقد حول السرد الأدبي إلى أداة للحفاظ على التراث الشعبي، وجعل منه جزءًا لا يتجزأ من الهوية الثقافية المصرية.

يقول خيري شلبي في إحدى مقابلاته:

"إذا كنت تريد أن تفهم شعبًا ما، فعليك أن تستمع إلى حكاياته، وأن تفهم كيف يعيش حياته اليومية. الأدب هو مرآة للناس، وليس مرآة للنخبة."

هذا الالتزام بتوثيق الحكايات الشعبية هو ما يجعل أدب خيري شلبي ذا طابع فريد. إن أعماله تظل مرجعًا هامًا للباحثين والمهتمين بدراسة التراث الشعبي المصري والحياة اليومية للطبقات المهمشة في مصر.

في النهاية، يظل خيري شلبي واحدًا من أعظم الأدباء المصريين الذين استطاعوا أن يقدموا صورة شاملة ومعقدة للحياة المصرية بمختلف جوانبها. من خلال واقعيته الاجتماعية، وتركيزه على المهمشين والطبقات الدنيا، وقدرته على المزج بين الواقعية والخيال، استطاع أن يخلق عوالم أدبية غنية ومؤثرة. إن إرثه الأدبي سيظل حاضرًا، لأنه يعكس تجارب الناس البسطاء وآمالهم وأحلامهم، ويقدم لنا صورة عميقة عن مصر الحديثة بجميع تعقيداتها وتناقضاتها.

يقول شلبي في ختام روايته "وكالة عطية":

"كل حكاية تنتهي، لكن العالم يظل مستمرًا في حكايته الأبدية. كل نهاية هي بداية جديدة، وكل شخص يحمل داخله قصة تنتظر أن تروى."

بهذه الكلمات، يختتم شلبي روايته، وربما يُصور بها فلسفته التي تؤمن بأن الحكاية لا تموت أبدًا، وأن الحياة هي سلسلة لا تنتهي من القصص التي  تأبى أن تُنسى.