شهد الرأي العام السوداني انقساما حادا بعد توصية بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة بإنشاء قوة حفظ سلام مستقلة، لحماية المدنيين، بين من يرى أن إنشائها قد يسهم في خفض العنف ووقف الحرب، خاصة إن صاحبها قرار بتنفيذ توصية أخرى للجنة بـ"حظر توريد السلاح والطيران"، فيما يرى آخرون أن هذه الخطوة تزيد الأمور تعقيداً، وتضع البلاد أمام مواجهة مفتوحة.
والخميس المقبل، ستقدّم بعثة تقصي الحقائق التي شكلها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 11 أكتوبر 2023 بناء على مشروع قرار "أميركي بريطاني نرويجي ألماني"، تقريرها للمجلس للنظر فيه.
وقال مدير معهد جنيف لحقوق الإنسان، نزار عبد القادر، إن "مدة لجنة تقصي الحقائق عام واحد من أكتوبر 2023 إلى أكتوبر 2024، قابلة للتمديد".
وذكر عبد القادر أن البعثة المؤلفة من 3 أعضاء "برئاسة القاضي التنزاني، محمد شاندي، الذي كان رئيساً للقضاء في بلاده، ورئيساً للادعاء في المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، ورئيساً للجنة التحقيق في الانتهاكات المزعومة في إثيوبيا إبان نزاع الحكومة مع جبهة تحرير تيجراي، وعضوية الخبيرة القانونية الأردنية منى رشماوي، والمحامية النيجيرية جوي نغوزي إيزيلو".
وأوضح عبد القادر أن البعثة معنية بمهمتي "تقصي الحقائق، والتحقيق حسب قرار مجلس حقوق الإنسان"، لافتاً إلى أنها كشفت في تقريرها عن امتناع السلطات السودانية عن الرد على طلبات منح أعضائها تأشيرات دخول إلى السودان، بعد تقدمهم بطلبها لـ4 مرات على التوالي في (3 يناير، 29 يناير، 7 يونيو، و9 أغسطس 2024)، مبيناً أن" الحكومة السودانية لم تعلق على تقرير البعثة الذي أرسل في 23 أغسطس، فيما يجب عليها أن ترد قبل الأول من سبتمبر".
وامتنعت قوات الدعم السريع عن التعليق بشأن توصيات البعثة، بالرغم من تأكيد قادتها مراراً وتكراراً على استعدادهم للتعاون مع أي لجنة تحقيق دولية.
وقالت وزارة الخارجية السودانية، في بيان، إن البعثة استبقت دورة مجلس حقوق الإنسان الجديدة، معتبرة أنها "تفتقر إلى المهنية والاستقلالية"، وأنها "سياسية لا قانونية"، مشيرة إلى أنها لجأت إلى "عمل دعائي قبل مداولات المجلس للتأثير على مواقف الدول الأعضاء، لتحقيق أهداف سياسية بعينها وتمديد عملها".
وأفادت الخارجية السودانية بأن البعثة وقعت في تناقض بذكرها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وعنف جنسي واستهداف للمدنيين "ترتكبها ميليشيا الدعم السريع"، وفي الوقت ذاته دعت لتشكيل قوة حماية دولية وحظر السلاح عن الجيش الوطني الذي يضطلع بدوره "الدستوري والأخلاقي في حماية البلاد".
واعتبرت أن هذه الدعوة "لا تعدو أن تكون أمنية لأعداء السودان ولن تتحقق"، مشددة على رفض الحكومة السودانية لتوصيات اللجنة جملة وتفصيلاً.
المبعوث الأمريكي للسودان توم بيريلو قال لوسائل إعلام في واشنطن، إن "السودانيين يتطلعون لاستجابة من المجتمع الدولي"، بما في ذلك أي جهود لإنهاء الحرب والفظائع، تاركاً الباب موارباً أمام معرفة نوايا واشنطن وخططها بهذا الشأن، وما إذا كانت "ستتبنى توصيات اللجنة أم لا".
أما تنسيقية "تقدّم" التي يقودها رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، فقد رحبت في بيان بما ورد في التقرير، مشددة على إدانتها المغلّظة وضرورة محاسبة الذين ارتكبوا انتهاكات وجبر أضرار الملايين الذين استهدفتهم القوى المتحاربة، داعية مجلس حقوق الإنسان لتمديد ولاية البعثة ودعم عملها.
وفي سياق متصل، علّق نائب رئيس حزب المؤتمر السوداني، والقيادي في "تقدّم"، خالد عمر يوسف على منصة "إكس"، بأن التقرير حوّل النقاش من "النزاع السياسي إلى سياق حقوقي وأخلاقي يوثق للحقائق كما حدثت"، معتبراً أن "الطرفين قد ارتكبا جرائم يندى لها الجبين".
وقالت كيت نوف، المستشارة المختصة بالشؤون السودانية في المعهد الأوروبي للسلام، في تصريحالت صحفية، إن السودانيين يستحقون الحماية والدعم بكل الوسائل المتاحة من قبل الأسرة الدولية التي ينبغي أن تستجيب للأوضاع الكارثية في هذا البلد.
وأضافت: "من المحزن ألا يتمكن مجلس الأمن، من إصدار قرار بشأن قوة حفظ سلام في هذا الوقت، بالنظر إلى الاختلافات بهذا الشأن، وغياب التوافق بين الدول الخمس دائمة العضوية".
وأوضحت نوف أن "السودانيين يتوجب عليهم الاستمرار في المطالبة بإجراءات فعالة لوقف العنف، خاصة في ظل المجاعة التي تتكشف يوماً بعد آخر والأوضاع الإنسانية المتدهورة علاوة على تمكين الناس من اختيار حكومة تمثلهم وخاضعة للمحاسبة".
واعتبر المحلل السياسي السوداني محمد لطيف، أن فكرة القوات الدولية مطروحة بقوة، وتزداد احتمالاتها كل يوم نتيجة "لاستمرار الحرب، ورفض أطرافها التفاوض".
وذكر لطيف، أسباباً اعتبر أنها "ستحد من فاعلية نشر أية قوة محدودة"، وهي "انتشار العمليات العسكرية في مساحات شاسعة من البلاد، وتعدد أطراف الصراع، ووجود عناصر متفلتة من كل الأطراف"، مشيراً إلى أن هذه العوامل تنسف فكرة الفصل بين القوات، وتعقد عمل القوات الدولية، مؤكداً أن الحل يكمن في "تطبيق حازم لحظر الأسلحة، وحظر المصادر المالية مع تفعيل دور القوى المدنية".
وقال المدير التنفيذي لمركز "فكرة" للدراسات، أمجد فريد إن التقرير جاء متكاملاً وجيداً إلى حد كبير، وإن" توصياته تتسق مع تفويض مجلس حقوق الإنسان، لكنه شكك كثيراً في توافق أعضاء مجلس الأمن، وبتركيبته الحالية على بعثة قوات حفظ أو صنع سلام في السودان حالياً".
وأكد فريد أن نشر قوة مماثلة "يكلف الكثير من الأموال، وهي موارد يمكن أن يتم استخدامها في تغطية احتياجات إنسانية أخرى ملحة، في ظل شح الموارد الحالي، إضافة إلى ضرورة موافقة الحكومة السودانية علاوة على التفاوض من أجل توقيع اتفاقيات لوضع القوات والبعثة".
وأشار إلى أن التجارب السابقة في العالم التي خلفت نجاحاً محدوداً في صناعة الاستقرار والسلام قائلاً: "ما نحتاجه في السودان هو التفكير بشكل عملي خارج الصندوق لابتداع نموذج لحماية المدنيين قابل للتطبيق على أرض الواقع بفعالية"، مقترحاً فكرة مشروع يهدف إلى "تحديد مناطق خضراء آمنة محمية من الهجمات العسكرية مع مراقبتها بواسطة الأقمار الاصطناعية، وبواسطة لجنة مشتركة تضم الطرفين إضافة لطرف ثالث محايد تعمل لمنع أي هجوم على هذه المناطق".
وأكد القيادي في حزب الأمة القومي، محمد الأمين عبد النبي أن الوضع في السودان معقد للغاية، بعد أن خلفت الحرب وضعاً إنسانياً كارثياً باستمرار الحرب وزيادة الانتهاكات الجسيمة، وامتداد القتال لمناطق واسعة في البلاد وتأثيرها على دول الجوار والمنطقة في ظل عجز الدولة عن حماية المواطنين.
وأشار عبد النبي إلى أن الوضع الجاري "يستدعي تدخلاً عاجلاً وعمليات متعددة للأمم المتحدة لإنقاذ الأرواح وتخفيف معاناة السودانيين تحت غطاء التدخل الإنساني الدولي بموجب الفصل الخامس والسادس، ووفق مبدأ المسؤولية عن الحماية الدولية وحفظ السلام والعون الإنساني، دون المساس بالسيادة الوطنية وكجزء من عملية حفظ سلام ما بعد الحرب".
وحذر عبد النبي من أن التدخل إن لم يعقبه انخراط طرفي الحرب في مفاوضات وتنفيذ اتفاق جدة والتفاهمات الأخرى التي تمت بعده، فإنه "سيزيد الاستقطاب وستدخل الحرب مرحلة جديدة، ويفتح الباب أمام الإرهاب والتطرف، خاصة أن النظام السابق خلف "قنابل موقوتة من التشنج والانقسامات"، على حد تعبيره.