الأحد 24 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

المؤمن في سفر دائم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

الشيخ الأكبر محى الدين بن عربي منذ ولادته فى مدينة مرسية في الأندلس حتى وفاته فى دمشق وهو فى ترحال دائم، فهو يرى أن المؤمن في سفرٍ دائم. والوجود كله سفر في سفر.

بدأ  تجوال الشيخ الأكبر داخل  مدن الأندلس بعدها اتجه  إلى شمال إفريقيا وفلسطين ومنها إلى مكة والعراق والأناضول ثم  إلى دمشق وأوّل ما دخل إلى الشام وجد في نفسه حبًّا مجهولًا لا يعرف سببه،  فيقول الشيخ الأكبر إن ذلك من ألطف ما وجده في الحبِّ وهو أن تجد عشقًا مفرطًا وهوىً وشوقًا مقلقًا وغرامًا ونحولًا وامتناعَ نومٍ ولذةٍ بطعام ولا تدري فيمن ولا بمن،ولا يتعيّن لك محبوبك.

و يُكنّ الشيخ الأكبر في نفسه حبًّا عميقًا للشام وما فيها حيث يقول:

ولما دخلت الشام خولطتُ في عقلي..
عشقتُ وما أدري الذي قد عشقته..ولا سمعَتْ أذناي قط بذكره..
فجُبت بلادَ الله شرقًا ومغربًا..فلم أرَ قبلي في الهوى عاشقًا مثلي.

و قد وجد في دمشق احتفاءً كبيرًامن قبل عائلة بني الزكي الذين اشتهروا بمنصب قاضي القضاة فتوارثوه لفترات طويلة.

وقد أجاد الروائى المبدع محمد حسن علوان فى روايته الشيقة والممتعة، موت صغير،تصوير الشيخ الأكبر في أواخر عمره، بعد أن تجاوز السبعبن من عمره، إذ شاب شعره، وانحنى ظهره،وذهب سمعه واضمحلت  ذاكرته، فاصبح يمشى فى الطريق إلى شأن حتى إذا انتصف به الطريق نسى من أين جاء وإلى أين يذهب، وبدأت مفاصله تؤلمه فلا يستطيع القيام أو القعود بسهولة...و لم يدرك حينها  سرّ نظرات الشفقة في عيون التلاميذ، ولكنه أدرك  أنه بلغ من العمر الذي تصبح فيه الحياة أكثر مشقةً من الموت، ‫ ولم يتوقف هذا  الشقاء على ذهاب صحته  بل امتد إلى جيبه فمسّه الفقر.

وتخيل الروائى المبدع أفعاله فى أيامه الأخيرة فكتب:

أصبحت ذات يوم وليس معي مالٌ أنفق به على بيتي...خرجت فى الصباح  ومشيت عكس اتجاه الخانقاه حتى بلغت الغوطة،وقفت مع الرجال الذين ينتظرون من يستأجرهم للفلاحة، فاختير أغلب من وقفوا معي إلا أنا... نفروا من شيبتي وانحناء ظهري حتى مر رجلٌ أخذني معه إلى بستانٍ صغير قرب بيته فصرت أقلم الأشجار،وأجمع الأوراق، وأقطف الثمار،وأسقي الزروع حتى المساء تطعمني زوجته، ويعطيني هو الدرهمين اللذين أشتري بهما عشاء لى ولأسرتى.

 قضيت ثمانية أشهر على هذا الحال أو ربما تسعة لم أعد أذكر طريقي إلى البستان غدوَّ يومي ورواحه، تئنّ ركبتاي من الألم، أحيانًا  فأجلس مراتٍ كثيرة حتى أبلغ البستان أخيرًا،وفيه أبدأ باليسير من الأعمال خشية أن يستنفد العسير منها قوتي، فلا أكمل عملي، أنثر الحب للدجاج وأنظّف القنّ، أجمع البيض  في سلة وأضعه أمام بابهم، ثم أكنس الأوراق المتساقطة، وأجري الماء في سواقيه، وهذا الذي يؤلم ظهري فأكمل الكنس زحفًا وقد أثقلت عليّ المجرفة، وأفتح السواقي بيدي وقد أعجزني حمل المسحاة، وتخذلني ذراعاي حتى لا تبلغان ثمرةً تعلو قامتي بقليل، ‫ يزداد العمل مشقةً، حتى صرت أقضي نهارًا كاملًا فيما كنت أقضي فيه نصف نهار، ولكني لا أعلم عملًا أيسر من هذا وأخفى  عن عيون الناس،قد علمت لو أني اعتذرت عن كتبي، وتراجعت عن أقوالي، لعاد المال وصفت الحياة، ولكنا نبلغ عمرًا يصبح فيه التراجع أشدّ مرارةً من الهرم والوجع... سأعمل في هذا البستان ما دمت أقف على قدمَيّ، آكل من عمل يدي،حتى يختارني الله إلى  جواره ويقعدني في داره التي لا عمل فيها ولا تعب.

انتصف الشتاء، وازداد برده وزمهريره الريح التي تجوب الأزقة الضيقة، تكاد تفقدني توازني إذا واجهتها، خرجت من داري متلثّمًا بطرف عمامتي ومرتديًا جبةً ثقيلة من الصوف.

وجدت الشوارع في هرجٍ ومرج... أفواج الناس تصيح في الأزقة، وتؤذن وتكبر...  وفجأةً اندفعت زمرة من العسكر فوق جيادهم،ومعهم سياط،راحوا يضربون الناس بها  دون تفرقة.

انهالت ضربات السياط على الشيوخ والأطفال والفتيان،من كان منهم هائجًا مع الهائجين ومن كان منهم عابرًا مع العابرين مثلي... لسعني السوط في كتفي وخدي فسقطت على الأرض، وطأتني أقدام المتجمهرين وارتطم رأسي بجدار أحد البيوت... وقفت بصعوبة ومفاصلي تئنّ ألمًا،وفي رأسي دوارٌ كثيف يوشك أن يوقعني في إغماءة، ألصقت نفسي بالجدار لئلا أسقط...   وقفت عندما وجدت في نفسي قوةً للوقوف...ومشيت قليلًا، ثم نشبت يد أحدهم وهو يركض بثوبي، فأسقطني مرةً أخرى، اختنقت بالغبار الذي ثارت به أقدام الهاربين وحوافر الخيل.

أصاب فكّي حجرٌ ارتدّ من دروع العسكر  فمادت بي الأرض...علمت أني لا أقدر على الوقوف...غطيت رأسي بيدَيّ وصحت مناديًا الله:

لطفك يا لطيف. وأظنني غبت عن الوعي زمنًا لا أعرفه.

‏الأسبوع القادم بإذن الله نعرف مالذي حدث فى غيبوبه الشيخ الأكبر.