في تاريخ الموسيقى العربية، تبرز فيروز وأم كلثوم كأيقونتين خلدتهما أصواتهما، وتأثيرهما العميق في قلوب الملايين عبر العقود. ومع أنهما يشتركان في المكانة الرفيعة والتقدير الكبير، فإن أسلوبهما الفني، وقوة تعبيرهما العاطفي، والرسائل التي تحملها أغانيهما تكشف عن فروق جوهرية بينهما.
أول ما يلفت الانتباه عند المقارنة بين فيروز وأم كلثوم هو الاختلاف الكبير في الصوت وأسلوب الأداء. فيروز، بصوتها الصافي والعذب، تمتلك القدرة على نقل المستمع إلى عوالم حالمة وهادئة. صوتها ينتمي إلى فئة الأصوات التي تلامس الروح بلطف، وتجعل المستمع يشعر وكأن صوتها ينساب في داخله، ينقيه ويأخذه إلى فضاءات من الصفاء والتأمل. يقول الكاتب اللبناني جبران خليل جبران: "الصوت هو الروح التي تجسد الجمال"، وكأن جبران وصف فيروز دون أن يعرفها.
أما أم كلثوم، فهي السيدة التي ارتبط صوتها بالقوة والعظمة. صوتها الجهوري المملوء بالعاطفة الجارفة يكاد يكون أداة تعبيرية جبارة قادرة على تفجير المشاعر المختبئة في أعماق النفس البشرية. أداء أم كلثوم هو أداء يحرك القلب ويجتاح الروح بقوة لا تقاوم، ويجعل المستمع يشعر بأن كل كلمة تُغنى تُنحت على جدران القلب. وكأنها تعيد تعريف المعنى الذي تمنحه الفنون للألم والفرح والشوق. وقد وصفها الشاعر أحمد رامي، الذي كتب لها العديد من أغانيها، قائلًا: "أم كلثوم ليست مجرد صوت، بل هي حالةروحية تغلف الروح وتحيل الكلمات إلى مشاعر صادقة".
تناولت فيروز في أغانيها مواضيع متعددة، منها الوطني والوجداني والديني. ولكن ما يميز فيروز حقًا هو قدرتها على تقديم الأغنية البسيطة التي تحمل في طياتها عمقًا كبيرًا. أغانيها أشبه بلوحات فنية، ترسم مشاهد من الحياة اليومية في لبنان، مشبعة بالحب والحنين. فيروز غنت للقرية، للأرض، وللحب البريء الذي يخلو من التعقيدات. ومن أشهر أغانيها "زهرة المدائن"، التي أصبحت رمزًا للصمود والتمسك بالهوية في وجه الغزاة.
أما أم كلثوم، فقد تناولت في أغانيها الحب بكل أبعاده المعقدة والمتشابكة. الحب عند أم كلثوم هو حب جارف لا يعرف الحدود، وهو حب يعبر عن قوة العاطفة وقدرتها على تحويل المستحيل إلى ممكن. أغانيها مثل "الأطلال" و"أمل حياتي" تعد تجسيدًا للعاطفة الجياشة التي تجعل من الحب تجربة إنسانية فريدة. يقول الشاعر محمود درويش عن أم كلثوم: "إنها تغني، فتجعل الحب يبدو كأنه أعظم اختراع في التاريخ".
تتوجه فيروز في أغانيها إلى الجمهور بأسلوب يجعله يشعر بالطمأنينة والراحة، فهي تحاكي في أغانيها وجدان الناس البسطاء، تعبر عن مشاعرهم دون أن تحمّلهم عناء التفكير العميق. إن فيروز هي الصوت الذي يسمعه المرء في الصباح ليبدأ يومه بتفاؤل، وهي الصوت الذي يُسمع في لحظات التأمل والسكينة. تأثير فيروز يكمن في قدرتها على ملامسة القلوب دون إحداث جروح، فهي تبث الطمأنينة في النفوس وتعيد بناء الحلم من جديد.
على الجانب الآخر، تمثل أم كلثوم الصوت الذي يحتاجه الإنسان في لحظات الشدة والضعف، الصوت الذي يغوص في أعماق الجروح ليخرجها إلى السطح، ليواجهها ويعالجها. جمهور أم كلثوم ليس فقط من المستمعين، بل هم عاشقون يعيشون كل كلمة تغنيها بعمق. إن تأثير أم كلثوم هو تأثير علاجي، يحمل المستمعين على مواجهة عواطفهم وأحزانهم وأفراحهم بشجاعة. أم كلثوم كانت ولا تزال رمزًا للقوة العاطفية التي تملك القدرة على تحدي الزمن وكسر قيود الضعف.
فيروز تمثل رمزًا للهوية اللبنانية، فهي صوت الجبل، صوت بيروت، صوت الذاكرة الجماعية لشعب عاش تجارب متنوعة من الفرح والألم. أغاني فيروز أصبحت جزءًا من التراث اللبناني، يتوارثها الأجيال كما يتوارثون الأرض واللغة. يقول الكاتب اللبناني مارون عبود: "فيروز هي لبنان، لبنان الجميل الذي يحمل في طياته قوة الحلم ورقة الواقع".
أما أم كلثوم، فقد تجاوزت بفنها حدود مصر لتصبح رمزًا للعروبة في كافة أرجاء العالم العربي. أم كلثوم هي "كوكب الشرق" الذي أنار سماء الفن العربي بضيائه، هي الصوت الذي وحّد مشاعر العرب وأحلامهم في كل مكان. وقد قال عنها جمال عبد الناصر: "أم كلثوم هي رمز القومية العربية، صوتها هو صوت الوحدة والأمل".
فيروز وأم كلثوم هما مناراتان في سماء الفن العربي، لكل منهما أسلوبها الخاص وجمهورها المخلص. فيروز هي صوت الحلم والتأمل، وأم كلثوم هي صوت العاطفة والوجدان. ورغم اختلافهما في الأسلوب والتعبير، فإن كلًا منهما قد تركت بصمة لا تمحى في تاريخ الموسيقى العربية. إنهما يمثلان مدرستين مختلفتين في الفن، تجسد كل واحدة منهما جزءًا من الروح العربية بكل تناقضاتها وجمالها.
إن الحديث عن فيروز وأم كلثوم هو حديث عن الحب والفن والجمال، هو حديث عن القوة والضعف، عن الأمل واليأس، عن كل ما يجعل من الإنسان إنسانًا. لذا، حذاري أن تحبوا من أعماق قلوبكم، لأن الحب هو ما جعل فيروز وأم كلثوم أسطورتين خالدتين، هو ما جعلهما يملكان قلوب الملايين، لكنه أيضًا هو ما جعلهما يعانيان في صمت، ويغنيان عن أوجاع الحب بكل هذه العظمة والصدق.