قطعت طريقنا في السير.. وقالت لماذا لم تأتوا لزيارتي؟.. قال لها: أين وأنا آتيك هرولةً حتى عتبة دارك.. قالت: أنا أسكن على عتبة مقام رئيسة الديوان..
وقد كان..
قدمنا التحية وأخذنا المدد وزوادة من محبة ومؤونة من أمل.. ثم قلت له إلى أين السفر؟
قال لي سألغي كل المواعيد وسأذهب لزيارة أهلي في المنيا.
ما يفعل العبد والأقدار جارية
عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء
لعروس الصعيد أعود أنا عبد الرحيم علي.. محملُ بالشوق للأهل من رحل ومن تبقى.. أعود لأثر قدم أبي وأطيط نعله على الثرى.. أعود لربيع سنوات أمي وعبق وشاحها وضحكتها المُعطرة.. أعود لذكريات الأصدقاء وونس الصحبة وبراءة البدء التي لا تستعاد.
أعود للجدران التي رسمت عليها أحلامي التي تحقق منها فوق ما أتمنى.. بإرادة الله.. وأذهب أنا معه لأعرف باقي تفاصيل الحكاية التي وصلت فصولها إلى الجزء الواحد والستين.
قال وهو ينظر على ما مضى من زمنٍ للوصول:
«ابتعدت أكثر مما أظن، لكن حبل سري بيني وقريتي لم ينقطع.. عرف لساني لغات أخرى، لكنه ظل محتفظًا بلهجته وارتديت ماركات عالمية لكني لم أخرج من عباءة أبي.. لكل مداد رائحة.. لكن عطر كراستي وعنواني الأول وموضوعي وفرحتي الأولى أزكاها».
شرط المعارف محو الكل منك
إذ بدا المريد بلحظ غير مطلع
محطة الوصول.. هنا بدأت المغامرة حين قطع تذكرته للأحلام بما في جيبه من جنيهات.. غامر بالممكن على المستحيل، وواجه المدينة بصدر مفتوح في معركة كان فيها القلم في مواجهة الرصاص.. حُوصر وهُدد بالاعتقال وأُهدر دمه مرات، فما توارى.. بل تبارى مع الموت فنجا من سطور الهلاك.. لكل قرية في مصر ثمة قصة نجاح، وعبد الرحيم علي قصة نجاح أهله التي يرونها لأطفالهم كل ليلة بعد صلاة العشاء.. ليست مغالاة فيمن نحب لكنه برٌ ووصل رأيناه دون زيف واصطناع.. أعظم الشجر من كان ثمره لأهله وظله للعابرين في قيظ الحياة.
يقول الأستاذ صبري عبد العزيز، صديق عبد الرحيم علي، كنا أصدقاء في الأهالي ولم يكن يطمح في شيء إلا ويخطط له ويحققه، ولم يكن يخاف من شيء، فأتذكر أن الدكتور رفعت السعيد وكان يعتبر عبد الرحيم ابنه وحينما صدر له كتاب “أسامة بن لادن الشبح الذي صنعته أمريكا”، قابله وقال له: "يا عبد الرحيم حد يقول للغولة إنتي غولة في عينها".. فقال له: أنا والرب واحد والعمر واحد".
ويتابع عبد العزيز، كانت بدايته شاعر وكان يحفظ قصائد كثيرة من بينها قصيدة "إلى عزة" وكنت أرجوه لساعات أن يقولها ويكتبها لي وبعد إلحاح كان يقول:
عزة
الغرام في الدم سارح
والهوى
طارح معزة
والحنين للقرب بارح
والنوى جارح
يا عزة
يا ابتسامة فجر هلت
بددت ليلى الحزين
يا ندى الصبح اللي سأسأ
فوق خدودي الدبلانين
أما جاره الأستاذ أشرف جابر، فيحكي عما كان بينهم من مودة وإخاء ويقول: عبد الرحيم علي نجح علشان كان قلبه جامد وعنده أصل لا نسي أهله ولا قطع وصل.
سكرت مِن المَعنى الَّذي هُوَ طَيِّبُ
وَلَكِن سُكري بِالمَحَبَّةِ أَعجَبُ
وَما كُلُّ سَكرانٍ يُحَدُّ بِواجِبٍ
فَفي الحُبِّ سَكرانٌ وَلا يَتَأَدَّبُ
تَقومُ السُكارى عَن ثَمانينَ جَلدَةً
صَحاةَ وَسَكرانُ المَحَبَّةِ يُصلَبُ
ولأن الحديث في مستهل فصل الخريف.. فلكم من رياح وعواصف مالت معها أغصان، ولكم سقطت أوراق شجر ولم يبق إلا الضارب جذعه في الأرض.. المتمسك بأرضه، أنا مثله كلانا نحب درويش وربما يُعجبنا الخريف..
أحب الخريف وظل المعاني
ويعجبني في الخريف غموض خفيف
شفيف المناديل كالشعر عب ولادته
إذ يزغلله وهج الليل وعتمة الضوء
يحبو ولا يجد الاسم للشيء.
تحدث للحاضرين، أنا وتلك الصُحبة: «أما وأننا قد اطلعنا ومررنا ورأينا ما شهدته محافظة المنيا من عمارة وتطوير في البنية التحتية والطرق وكل المناحي، فوجب علينا أن نخبر شبابا أن هذا ليس صنع اليوم، بل إنهم البشر الذين كانوا هنا على مر عقود مضت.. لم يبخل أحد فيهم بشيء.. قدموا أرواحهم وأولادهم ليضعوا لبنة في كيان تلك الجمهورية الجديدة.. منهم من وضع صدره على فوهة بندقية الإرهاب حينما هدد بقتل الأمل هنا.. ومنهم من صنع من أبيات الشعر خُبزًا في سنوات الفقر ووزعه على الصغار لكي لا يموتوا جوعًا وهم في انتظار الفجر.. ومنهم من صنع من الكلمة مصابيح لكي لا يتعسر السائرون في طين الجهل والتجهيل.
في كل بيت وشارع وميدان وقرية ومدينة ثمة حكايات.. ثمة دلائل.. ثمة تاريخ.. ثمة أبناء لمصر أبيا أن يمضوا دون أن ينقشوا اسمها أسماءهم على متون الزمان».
أنا هنا أحدثك من غرب النيل
من مدينة تموني.. من منية ابن الخصيب..
من أمام دار مارية القبطية.. من تونا الجبل.. من استراحة عميد الأدب.. هنا من حيث وضع علي عبد الرازق الإسلام وأصول الحكم.. من حيث الأبجدية المصورة والحكايا والأساطير..
من هنا.. وما أدراك ما هنا.. هنا تل العمارنة والبهنسا وطها الجبل وهنا دير العذراء والشيخ عبادة.
تبسم لي "علي" وقال: «على مهل.. اطوي ما كتبته عن مصر في عجالة وأعد ترتيب الأسماء والأحداث وفق تأريخها ثم رتب أبجديات الحياة بعد اسمها.. وأعاد نصيحته التي لا يكف عن قولها لعربي وغربي: «إياك أن ترى مصر عبر لحظة عابرة في عمر الزمن.. مصر حسناء لا يطول الشيب رأسها.. كانت ولا زالت حائط الصد الأخير.. السد المنيع الذي تصدى لكل محاولات الهدم والتجريف والتدمير.. مصر التي في خضم معاناتها تقتسم كسرة خبزها مع ضيفها.. مصر التي تحمل على عاتقها هموم غيرها.
مصر حواء القرى
وقرارة التاريخ والآثار
فالصبح في منفٍ وثيبة واضح
من ذا يُلاقي الصبح بالإنكار؟
يسرح ثم يقول للحضور: هذا ليل المنيا.. من يعرف لغته سيكون بإمكانه أن يسمع تغريد الكروان على وقع أنغام عود الشريعي، «يا مصر يا جنة الدنيا ومعناها».. وأن يقرأ الأيام قبل حديث الأربعاء ليُفرغ نفسه لسهرة عبد الحميد إبراهيم.. وحتى يتسلل من «شعبطة» أطفاله سيمنحهم إحدى حكايات عمهم يعقوب الشاروني "رادوبيس أو البطل المنصور أو عفاريت نصف الليل».. سيقابل يوسف الشاروني وسيسأله إن كان واحدًا من «العشاق الخمسة»، سيقول له نعم.. ولك مقعد فارغ آخر، اعطه لمن تشاء إذا وجدته.. ثم يسير يُلملم أقاصيص أوراق العمر من لويس عوض قبل أن يرحل القمر.
أتسمع ذلك الصوت الذي يأتي من البر الآخر للنيل!
يناديك أنت لا أنا فأنا من أهل البلد
انصت اسمع.. ماذا يقول!
يقول: «يا أيها الغريب تعالى معنا لنُثبت "مسامير الشمس" ونصعد سويًا من الباب الخلفي للجنة.. لا تذهب بعيدًا.. في البرشا "رفعت عيني للسماء" وفي "ديرمواس" توضأت بالدم والعسل.. صلى المسلمون في مسجد العذراء والأقباط في خيمة بالخلاء.. أخلاء كهلال وصليب رسما في السماء».
أقطع الحديث بسيل من الاستفسارات: «يقولون في كتب التاريخ أن مرضعة خوفو كانت هنا، كان اسمها «منعه» فأقامت منزلًا أسموه «منه»، وكانت تعبد "تحوت" إله الحكمة والمعرفة.. أيكون ذلك سبب كثرة إنجاب المدينة للمفكرين والمثقفين والأدباء.. ! وتقول الحكايات إن هدى شعراوي ابنة أحد أبنائها ولشقيقاتها العديد من أولاد أخناتون!».
فيجيب: «لا أحد يعرف حكاية السبع بنات.. ربما ترك الراوي تفاصيل الحكاية للخيال.. أعطى قلمه والسطر ومزاجه للمستمعين لبعض الوقت للمتعة، فكتب كل منهم حكاية تناسبه واختار شطرًا من القصيدة يطربه أو أن أصل الحكاية ستفصح عنه الأرض يوما كما تفصح عن الحضارات والآثار».
رأينا البقيع ونحن نُعدد محاسن عروس الصعيد.. أتعجب من التاريخ!.
فيقول: «أتظن أن في التاريخ مغالاة محبة حينما كتب أن 5 آلاف صحابي اختاروا الحياة والموت هنا.. أليس ذلك أبسط دليل أن ما هنا ليس في أي مكان سوى هنا.. هلا تخيلت يوما هذا المشهد.. انظر إلى العالم ثم إلى مصر إلى كل هؤلاء الصحابة والأولياء وآل البيت والقساوسة وعباد الله والطيبون والمخلصون في هذا البلد.. الكل تحمل وقدم كل ما في وسعه ليرى أبناؤه ما عليه مصر الآن من نعمة الأمن والاستقرار.. كل بيت في مصر به شهيد وكل شارع فيه ولي".
أخذنا الحديث من المنيا إلى العالم.. إلى حديث الغرب عن مصر.. إلى ما سطره من مقالات وما عقده من لقاءات وما حضره من ندوات.. إلى مصر وأمنها القومي وما يحاك ضدها من مؤامرات.. إلى سير أبطالها.. إلى دينها الوسطي وعقيدة جيشها الراسخة.. استعدنا معه التاريخ من أوله.. عناوين الكتب ومتونها.. أسماء أبطالها وعلمائها ومفكريها وأدبائها.. فعرفنا مصر كما يجب أن نعرفها بعظمتها وجلالها وقدرها.
وفي طيات الحديث جاء ذكر نبي الطب مجدي يعقوب ونحن نتحدث عن ضرورة تسلح أبنائها بالعلم.. فها هو طبيب من ديارها يعجز العالم أمام عبقريته بعد أن أجرى ما لا يمكن تخيله "عملية قلب مفتوح لجنين في رحم أمه".
حديثك أمام أي مسؤول شيء.. وحديثك كمسؤول أمام أهلك شيء آخر.. وخاصة إذا كنت نموذجا وقدوة ترنو إليها القلوب والعقول.
قال لي عبد الرحيم علي قبل سفرنا ووصولنا أنه وأصحابه وهم صغار كانوا يلعبون لعبة تُسمى "السجانة".. وكانت عبارة عن اثنين يقفان أمام جدار ويمنعان أي شخص من لمسه.. تبدو اللعبة بلا معنى.. لكني حين تأملتها وجدت فيها كل معنى.. بل وجدت أننا في كل مكان نلعبها.. عبد الرحيم علي وقليل لا يدفعونك بعيدًا عن الجدار.. يُمررونك بينهم بإيثار.. يبادلونك لعبة الحرف والسطر.. فإن كتبوا قرأت.. وإن كتبت قرأوا.. على غير ما عليه الكثير إن ملكوا طردوا السكان وحرموا حتى الإيجار.
كانت ليلة حب ووصل بين الأهل.. كتبتها بما أحب أن أكتب.. بحرفي وحرفتي وفرحتي ودونت الزيارة من زاوية اخترتها.
اللهم مدد من مداد وسطر وستر وسلامة الوصول في كل سفر.