قريتنا أشبه بلوحة شاعرية منسقة الألوان، تطل من شرفاتها بعينيك.. وتفسح لأحلامك بأن تمارس عشقها القديم، تتأمل البيوت والأزقة والأصدقاء النائمين تحت قبعة أشجار التوت والظلال الخضراء.. وتتحسس أنامل البيوت الطينية الرطبة الحنونة.. تتدثر بلحاف ذاكرتك وسكينتك المحببة.. وتغفو للحظات أو لدهور، ثم تستيقظ على صوت تغريد البلابل والطيور حيث النسيم المحمل برائحة النعناع والورد.
قريتنا غنية بالموارد الزراعية، مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية الغنية بالأشجار المثمرة تحيط بالقرية من كل الاتجاهات، لا ينافسها في الغنى إلا البحر الذي يحيط بها بما يوفره من أسماك، والرجال الذين يعملون في كل أنواع الأعمال والتجارة.
لقريتنا عُرف يمضي على أهلها من جيل إلى جيل، تلتزم به كل الأجيال على أرضها، قانون يقضي بمنع الزواج من خارج القرية، ومن يخالف يتعرض للعقوبة: الحرمان من الميراث، الطرد من القرية، وتطارده شائعات تجعله منبوذًا، تغلق دونه الأبواب.
الزمن يمضي والأجيال تتعاقب والقانون لا ينزل به سلطان التغيير أو النسيان، كان الرجال يشعرون بالقوة، وأن كلمتهم لا تنزل الأرض، رغم وجود بعض الاعتراضات من النساء، ولكن بصوت منخفض، وإلا تعرضن لعدة أمور أقلها ضررًا الطلاق وعدم الزواج مرة أخرى، والتشهير بأنهن خارجات على أحكام الشريعة وطاعة الزوج والعائلة، وينتهي بهن الأمر إلى الحرمان من رؤية أولادهن.
في إحدى الليالي وإذ تفترش الكلاب الأرض تحتها، تغط في نوم عميق بعد نوبة نباح ليلي طويل، حيث الصمت يخيِم عليها، كتعويذة شريرة قد ألقيت عليها حيث تمتزج حياة المقابر، مع الأحياء وبقايا سور قديم يفصل بيْنَ تلك الحياتين! وعلى غفلة من الرجال دبرت نساء القرية اجتماعًا لمناقشة الموضوع، والبحث عن حل لفك الحصار الذكوري، وضرورة فتح أواصر النسب والمصاهرة، وتعزيز روابط الدم، وتصدير الجمال الذي تتمتع به فتيات القرية إلى القرى الأخرى، واستقدام شباب من القرى الأخرى لفتيات القرية، إقرارًا بحق الأجيال الجديدة من الشباب والشابات.
سعيدة ومسعدة وسعادات هن المتحدثات الرئيسات في التجمع النسائي، وهن معروفات في القرية بالقوة والشجاعة والجسارة وأيضًا المال.
سعيدة: الموضوع يحتاج إلى نقاش جاد وتخطيط واتخاذ قرارات قوية ومصيرية.. حتى...
سعادات: لدي فكرة.
مسعدة: تفضلي بطرحها بكل تفاصيلها.
سعادات: علينا نحن معشر النساء، أن نقوم بعمل واحد قوي وسريع، ودون أن يترتب عليه أي خطأ يثير انتباه أحد من الرجال أو حتى الشباب، ولا يصل السر إلى أي بشر من الذكور خاصة أن التنفيذ سيستغرق عدة سنوات.
الجميع يصرخ: تفضلي قولي ما عندك.
وبصوت بدا كقطعة من الخشب نخرها السوس وامتلأت شقوقها بالعقارب، ونصب العنكبوت بيته فيها بهدوء قالت سعادات:
- ركزوا معي واسمعوا جيدًا، أولاً الحفاظ على السر، وكسر سخرية الرجال بأننا لا نحفظ السر.
ثانيًا عليكم الامتناع عن إعطاء الرجال ما يريدون في أخر الليل أو وسط النهار أو حتى عند الصباح، بحجة المرض، العمل في البيت، ضغوط مسئوليات الأولاد، زيارة الأهل، وذلك على امتداد ستة أشهر.
ثالثًا: الانتشار فيما بينكن في كل البيوت وأيضًا لمدة ستة أشهر، كل امرأة مرضع منكن تدخل بيت فيه طفل يرضع، ذكر أو أنثى ترضعه عدة رضعات مشبعات، سيستغرق الأمر سنوات لكن سرعان ما يأتي بثماره، فما أن يكبر الأطفال حتى نرى من بينهم ذكورًا أخوة لإناث، وهنا نكسر العرف، وتكون هناك فرصة للزواج من خارج القرية للشباب من الجنسين.
ردت مسعدة على سعادات بصوتٍ مهموسٍ تنقر به باب الثقة فقالت:
ـ السر محفوظ ولن تجرؤ إحدانا على البوح به لا لصغير أو كبير، أما الامتناع عن الأزواج فهذا أمر غير مستطاع، خاصة أنك حددت مدة ستة أشهر، حيث سرعان ما تنتهي المبررات، أما أمر الرضاعة والأخوة فيها، فهذا هو الاقتراح ومربط الفرس والذي سيأتي بالنتيجة المرجوة.. ما رأيكن يا نساء؟.
أظن أنه مهما كان الرجال عنيدين وقساة فلن يرضوا أن يروا أبناءهم عازبين وبناتهن عوانس، مما سيشكل ضغطًا نفسيًّا شديدًا عليهم، وبكل تأكيد سيفلت منهم فتاة أو شاب أو أكثر للزواج من الخارج.
تصايحت النساء موافقات ومستحسنات الاقتراح.. وتعاهدن على التنفيذ والسرية... وانفض الاجتماع..
مرت سنوات وكبر الأولاد والبنات، ساد الهرج والمرج، والتساؤلات والرفض للزواج واعتراف النساء أنهن أرضعن هذا الطفل وتلك الطفلة، ومن ثم لا يجوز شرعًا الزواج.
انتشر الخبر سريعًا في أنحاء القرية، وأصبح كل أهل القرية تحت قبضة الأمر الواقع، الشباب يتزوجون من خارج القرية والبنات يخرجن من القرية للعيش مع أزواجهن، ومع دخول وخروج الرجال والبنات من القرية وإليها، غاب العرف وتبدلت العادات والتقاليد، وانتشرت السلوكيات التي لم تكن معتادة بين أهلها.
تمكن العنكبوت من اصطياد الذبابة التي كانت تزعجه، فوقعت في شباكه الواهنة وهو يسير الآن نحوها بهدوء. والآن كروش الرجال منتفخة كثيرًا، والنساء يتلاعبن بكل شيء في أجسادهن ليلقن بكل أشكال الموضة من ملابس وإكسسوارات وماكياجات، وهكذا أصبحت القرية مستباحة لكل جديد يأتي من المدينة، الفساد ازداد، الغش أصبح متعارفًا عليه، الكذب سمة الرجال، الطلاق ارتفعت معدلاته، والعلاقات المشبوهة كثرت.
والأكثر أيضًا أن من تسلَّم المناصب المهمة في القرية في المؤسسات والتعليم والمراكز كانوا من خارج القرية، وراحوا يوظفون أقاربهم، مما جعل جحافل العاطلين من أبناء القرية الأصليين يفرون إلى دول الجوار لعل وعسى يحققون شيئًا من أحلامهم.
الكارثة أن قريتنا بعد أن كانت تنعم بزراعة وبحر وقانون، أصبحت كقطعة دهن كبيرة متخمة بالحزن والعوز، تستورد وتتسول المساعدات والمعونات، ولا نحصل عليها إلا بالتنازلات، لقد فقدنا الأرض والإنسان والقيم، بُقر بطن البحر وقطعت رءوس النخيل وتحولت الحقول إلى بنايات تناطح السحاب، وأينما تسير تشم روائح السمعة السيئة والأعمال القذرة والمؤامرات.