الخميس 21 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ملفات خاصة

سامح قاسم يكتب: أدلجة التراث.. السياقات والتداعيات

سامح قاسم
سامح قاسم
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news


في السياقات الثقافية والفكرية المعاصرة، لا يمكن إغفال الدور الهائل الذي يلعبه التراث في تشكيل الهوية والوعي الجماعي للأمم. يمثل التراث جزءًا لا يتجزأ من هذه الهوية، فهو مجموعة متكاملة من القيم والمعارف والتجارب الإنسانية التي تشكلت عبر قرون من التفاعل الاجتماعي والفكري. غير أن هذا التراث لم يسلم من محاولات الأدلجة التي سعت إلى تطويعه لخدمة أغراض سياسية أو أيديولوجية، وهو ما أثار نقاشات عميقة حول طبيعة العلاقة بين الماضي والحاضر، وكيف يمكن للتراث أن يُستخدم في بناء أو تقويض المجتمعات.

مفهوم التراث
التراث، هو مصطلح يشمل مجموعة متنوعة من المعارف والتقاليد التي تطورت في سياق الحضارة الإسلامية منذ القرن السابع الميلادي. يشمل هذا التراث الجوانب الدينية والفلسفية والعلمية والأدبية والفنية، وكل ما له علاقة بتجارب المسلمين في بناء حضارتهم. وقد تأثرت هذه المعارف والتقاليد بمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية، مثل التواصل مع الحضارات الأخرى والتفاعل مع مختلف الأفكار الفلسفية والدينية.

الأدلجة وأبعادها
الأدلجة هي عملية تحويل الأفكار والمعتقدات إلى أيديولوجيا، وهي نظام من الأفكار والمعتقدات التي تسعى إلى تفسير الواقع وتوجيه السلوك البشري. وهي تسعى عادةً إلى تحقيق غايات معينة عبر تطويع المعرفة وتفسيرها بطريقة تدعم هذه الغايات.
فيما يتعلق بالتراث العربي والإسلامي، فإن الأدلجة تعني تكييف هذا التراث واستخدامه لخدمة أهداف أيديولوجية محددة، أو تبرير ممارسات وأفعال معينة. ومن هنا تأتي أهمية فهم الأبعاد المختلفة لأدلجة التراث وتأثيراتها على المجتمعات.

أدلجة التراث في السياق التاريخي
خلال فترة النهضة العربية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ظهر الاهتمام بالتراث كجزء من حركة واسعة لإحياء الهوية الثقافية العربية والإسلامية. في هذه الفترة، كانت هناك محاولات عديدة لإعادة قراءة التراث وتنقيته من الشوائب التي يُعتقد أنها تراكمت عليه عبر الزمن. وقد ارتبطت هذه المحاولات غالبًا بحركات سياسية وأيديولوجية سعت إلى استخدام التراث كوسيلة لتحقيق أهدافها.
على سبيل المثال، شهدت الحركات الإسلاموية المتطرفة منذ منتصف القرن العشرين صعودًا ملحوظًا، وقد سعت هذه الحركات إلى استخدام التراث الإسلامي كقاعدة لتبرير أيديولوجياتها الدينية والسياسية. من خلال إعادة تفسير النصوص الدينية والتراثية، سعت هذه الحركات إلى تقديم صورة غيرمتجانسة ومتصلبة للإسلام، تتناسب مع رؤيتها للعالم والمجتمع. وقد أدى هذا إلى تحويل التراث إلى ساحة معركة أيديولوجية، حيث يتنافس مختلف الأطراف على السيطرة على تفسيراته وتوجيهاته.

أدلجة التراث في العصر الحديث
في العصر الحديث، تزداد أهمية التراث العربي والإسلامي نتيجة للتحديات التي تواجهها المجتمعات العربية والإسلامية، سواء كانت تحديات داخلية تتعلق بالتنمية والحداثة، أو خارجية تتعلق بالعولمة والصراعات الثقافية. في هذا السياق، نجد أن الأدلجة تتخذ أشكالًا أكثر تعقيدًا وتنوعًا.

على الصعيد الديني، نجد أن بعض الجماعات المتطرفة تسعى إلى استخدام التراث كوسيلة لتعزيز مشروعها الأيديولوجي، سواء كان ذلك من خلال الدعوة إلى العودة إلى "الأصول" أو من خلال تطويع التراث لتبرير تجاوزاتها واستخدامها للعنف وقيامها بانتهاكات يرفضها المنطق والقانون. هذا النوع من الأدلجة قد يؤدي إلى تشويه التراث وتحويله إلى أداة للصراع بدلًا من أن يكون مصدرًا للتفاهم والوحدة.
من ناحية أخرى، نجد أن هناك محاولات جديدة لإعادة قراءة التراث من منظور نقدي يتجاوز الأدلجة، ويسعى إلى فهم التراث في سياقاته التاريخية والثقافية. هذا المنهج النقدي يسعى إلى تقديم صورة متوازنة للتراث، تأخذ في الاعتبار تعقيداته وتنوعاته، دون أن تخضع لأيديولوجيا محددة.

تأثير الأدلجة على التراث والمجتمع
تترك الأدلجة آثارًا عميقة على التراث والمجتمع. فمن جهة، تؤدي الأدلجة إلى تسييس التراث وتحويله إلى أداة في يد القوى الرجعية والمتطرفة. هذا التسييس قد يؤدي إلى تشويه التراث وتقديمه بشكل مبتور أو مشوه، مما يساهم في تعزيز الانقسامات والصراعات داخل المجتمع الواحد.

من جهة أخرى، تؤدي الأدلجة إلى تقييد الإبداع والتجديد في التعامل مع التراث. عندما يُفرض تفسير محدد للتراث يخدم أهدافًا أيديولوجية معينة، يصبح من الصعب تقديم قراءات جديدة أو مبتكرة لهذا التراث. هذا التقييد قد يؤدي إلى تجميد التراث وتحويله إلى نصوص جامدة تفقد قدرتها على التفاعل مع الحاضر والمستقبل.

أخيرًا، تؤدي الأدلجة إلى تعزيز النزعة الانعزالية والعدوانية داخل المجتمع. عندما يتحول التراث إلى ساحة للصراع الأيديولوجي، يصبح من الصعب تحقيق التفاهم والتعايش بين مختلف المكونات الاجتماعية. بدلًا من أن يكون التراث مصدرًا للوحدة والتفاهم، يتحول إلى مصدر للتفرقة والصراع.

الحاجة إلى قراءة نقدية للتراث
في ظل هذه التحديات، تبرز الحاجة إلى تبني قراءة نقدية للتراث العربي والإسلامي، قراءة تتجاوز الأدلجة وتسعى إلى فهم التراث في سياقاته التاريخية والثقافية. هذه القراءة النقدية يجب أن تكون شاملة ومتوازنة، تأخذ في الاعتبار تنوع التراث وتعقيداته، دون أن تخضع لضغوط الأيديولوجيا أو السياسة.

هذه القراءة النقدية يجب أن تنطلق من فهم عميق لدور التراث في تشكيل الهوية والوعي الجماعي. يجب أن تدرك أن التراث ليس مجرد مجموعة من النصوص والأفكار، بل هو نتاج تفاعل معقد بين الإنسان والزمان والمكان. هذا التفاعل يشمل مختلف الجوانب الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يجعل التراث جزءًا من عملية تاريخية مستمرة تتغير مع الزمن.

من هنا، يجب أن تسعى القراءة النقدية للتراث إلى تقديم صورة شاملة ومتوازنة، تأخذ في الاعتبار كل هذه العوامل. يجب أن تدرك أن التراث ليس ملكًا لجماعة أو فئة معينة، بل هو جزء من التاريخ المشترك للبشرية كلها. لذا، فإن محاولات احتكار تفسيره أو تطويعه لخدمة أيديولوجيات معينة تضر بتنوعه وتعددية الأصوات التي يحتويها.

التراث كمرآة للحاضر والمستقبل
التراث، بصفته نتاجًا لتجارب إنسانية متراكمة، لا يعبر فقط عن الماضي، بل يحمل في طياته إمكانيات للتفاعل مع الحاضر والمستقبل. ومن هنا تنبع أهمية استخدام التراث كنقطة انطلاق لفهم التحديات الراهنة واستشراف المستقبل. ولكن لتحقيق ذلك، يجب التحرر من قيود الأدلجة التي تسعى إلى تجميد التراث في قوالب جامدة تتجاهل طبيعته الديناميكية.
القراءة النقدية للتراث تتطلب وعيًا بأن هذا التراث لا يمكن أن يكون ثابتًا بمعزل عن سياقاته المتغيرة. فالتعامل مع التراث يجب أن يكون عملية مستمرة من النقد والتجديد، حيث يتم استكشاف الأفكار القديمة وإعادة صياغتها بما يتماشى مع متطلبات العصر الراهن. وهنا تبرز أهمية المثقف النقدي الذي يمتلك الشجاعة للغوص في أعماق التراث، وتقديم رؤى جديدة تحافظ على ثرائه وتعدد جوانبه، دون أن تسقط في فخ الأدلجة.