بر الوالدين هو أقصى درجات الإحسان إليهما فيدخل فيه جميع ما يجب من الرعاية والعناية، من روائع الدين الإسلامي تمجيده لبر الوالدين ولفتة على عظمتهما ودورهما الكبير في حياة الفرد، فهما من أنجباه وتكفلانه بالحب والرعاية والتوجيه والإرشاد، وهما من علماه فكانا له خير قدوة ودليل، وهما من رافقاه في مسيرته الصغيرة حتى ولج إلى حياة الكبار، فمن الطبيعي أن يشكر الإنسان من يساعده ويقدم له يد المساعدة، ولهذا فإن الوالدين هما أحق الناس بالشكر والتقدير، لكثرة ما قدماه من عطاء وتفان وحب لأولادهما دون انتظار مقابل، وهذه التضحيات العظيمة التي يقدمها الآباء لا بد أن يقابلها حقوق من الأبناء ومن هذه الحقوق التي وردت في القرآن الكريم: طاعتهما وتلبية أوامرهما والإنفاق عليهما عند الحاجة والتواضع لهما ومعاملتهما برفق ولين واحترام، فالوالدان هما سبب الوجود؛ ولكن هناك من يقابلهما بالجحود والنكران ورميهما بالشارع دون شفقة أو رحمة.
«البوابة نيوز» ترصد مأساة عدد من الأمهات من داخل إحدى دور الرعاية «للكبار بلا مأوى» لنشاهد حالات قد تكون غريبة على مجتمعنا الشرقى، حيث إننا تربينا على الحب والاحترام وحق الوالدين ولكن لم نتوقع أن نرى مثل هذه المشاهد المؤلمة لخيانة العشرة وموت الضمير.
من أجل زوجته خان أمه.. فاطمة: الرصيف أحن عليَّ من ابني
الحاجة فاطمة صاحبة 65 عاما، والتى قرر ابنها التخلص منها من خلال فكرة جهنمية هيأها له الشيطان للحصول على شقة المعيشة الخاصة بهم ليتمكن من الزواج وكان الطمع هو أول الطريق ليفكر أن يستغل طيبة وسذاجة والدته ثم يرميها فى الشارع ويعتبرها قد فارقت الحياة ليستمتع بملذات الحياة.
وتقول فاطمة «بعد سنوات من العناء هانت عليه العشرة ورمانى فى الشارع ونفسى أشوفه ومش عارفة أعمل إيه.. الحكاية إنى كنت عايشة حياتى سعيدة جدا وصرفت على ابنى كل فلوسى وكنت بحلم باليوم اللى هيكبر فيه عشان تكمل فرحتى وأحس بمجهودى فى تربيته مثل كل الناس وقلت بكرة هيكبر ويكون لي العون ولكن لم أكن أتوقع ما حدث».
وتابعت «أنا عندى 65 عاما و بعد وفاة زوجى عشت لتربية ابنى وكنت له الأم والأب لأحافظ عليه من غدر الزمن وحرصت على تعليمه والعمل على سعادته من وقت لآخر حرصا على راحته النفسية بعد فقدان الأب».
وأضافت طول حياتى أعيش في مدينة السويس وأحلم بأن يكون ابني هو العون لى بعد العمر الطويل ولم أعرف أن النهاية هتكون بالشكل ده وإن ابنى هو أول واحد يتركنى وحدى للشارع فى أول فرصة من أجل أن يعيش حياته براحته على حساب حياتى أنا.
واستكملت فاطمة: "ابنى قال لى تعالى أفسحك وخدنى وجينا على القاهرة حي السيدة زينب وقال لى انتظريني هنا وراح ومجاش تانى.. سنين عدت وأنا لوحدى ومكنتش أتخيل إنه ممكن يعمل في كده بعد تعبى عليه هانت عليه العشرة ورمانى فى الشارع دون مال ومأوى فى حى غريب عنى ومعرفتش أروح فين مشيت ولقيت نفسى بجوار سور مسجد السيدة زينب وجلست وفوضت أمرى لله وسكت من الصدمة، وبقيت أنام على الرصيف، وبعد فترة جاتلى سمر؛ من مؤسسة لرعاية الكبار بلا مأوي؛ وخدتنى أعيش معاها.
وتابعت: لم أكن أعرف شيئا في القاهرة إلا مسجد السيدة زينب وكان نفسى من زمان أروح أزورها وبعد ما وصلت بجوار مسجد الست حسيت براحة نفسية ومكنتش أعرف إن ابنى هيسبنى ويمشى، بقيت أفرش نصف البطانية على الأرض وأتغطى بالنصف الثاني، وباكل من الشارع كل اللى بييجى من باب الله، الموضوع كان صعب، لكن غصب عنى باتحمل وكل يوم بقول أكيد ابنى هييجى ياخدنى ولكن الرصيف أحن عليَّ من ابني.
تواصلت «البوابة نيوز» مع الدكتورة سمر نديم مؤسسة دار زهزة مصر لرعاية الكبار بلا مأوى؛ وقالت إنها تعمل من أجل مساعدة الكبار بدون مأوى وتحاول أن تكون عند حسن ظن الجميع وأن هذا النشاط هو عمل إنساني بحت وأن قصة هذه السيدة تعد من أكثر القصص التي مرت علينا فى الدار وكان لها صدى فى قلوبنا بعد معرفة تفاصيل المشهد الذى تعرضت له، وهى ابنة محافظة السويس وتعرضت لهذه المأساة من ابنها بعدما عاشت حياتها له ليكون هو فى أفضل الأحوال، واتغيرت الأمور وكانت هذه هى النهاية حينما لقت فاطمة نفسها على الرصيف فى الشارع بجوار مسجد السيدة زينب.
«فتحية» فقدت قدمها فأنكرها أهلها
فتحية منسى البالغة من العمر 53 عاما تذوقت طعم الحياة فى الدار بعدما أصابها الإحساس بانتهاك إنسانيتها حينما شاهدت نظرة الأمل فى وجة الدكتورة سمر، حيث قالت "قررت صاحبة الدار أن تنتشلنى من الشارع الذى طالما شعرت به بالعجز وقلة الحيلة فقد كنت بمثابة الغريق الذي يتعلق بقشة وذلك لما عانيت من عجز قدمي فكنت افترش الرصيف بجوار مسجد السيدة زينب ولا أجد سوى بطانية بالية تغطي جسدي".
وتابعت "معاناتى بدأت بعد موت الرئيس الراحل محمد أنور السادات حيث أصابنتى حالة نفسية وحزن شديد على رحيله وتعرضت لحادث وخضعت للعلاج ولكن مع الوقت لم أجد من يحتوينى بعدما تخلى عنى كل المقربين إلا الشارع ليشهد على كل ما تعرضت له من مأساة عندما قرر الجميع أن يتركنى بدون مأوى، حاولت واشتغلت وبعت مناديل، وأخيرا تعرضت لحادث أسفر عن إصابتى بالقدم اليمنى لأفقد القدرة على الحركة وأفقد معها الشغف فى الحياة ولكن مع الوقت لقيت سمر جاءت إلىَّ عند المسجد وأصرت أنها تاخدنى للدار لتكون شعاع النور لحياتى من جديد".
«جليلة» ضحية غدر الزوج.. رحلة تشرد من محافظة الشرقية إلي مسجد السيدة زينب
جليلة البالغة من العمر 63 عاما تلك العجوز التى مكثت بجوار مسجد السيدة زينب منذ سنوات؛ قدمت من محافظة الشرقية، لا تعرف شيئا في القاهرة سوى المسجد الذي كانت تحلم أن تزوره مع زوجها، قبل أن يطلقها بعد 24 عاما من الحياة الزوجية، ويتركها بلا أي مصدر للرزق ولم تجد من يطعمها، فهربت إلى رصيف المسجد. تقول: «أنا هنا عايشة وباجيب باكو المناديل أبيعه بالنهار وأنام بالليل. فيه واحد ابن حلال حن عليَّ ببطانية جديدة، قام بعض الشباب بسرقتها مني بالليل وأنا نايمة، يبيعوها ليشربوا بحقها سجاير».
تدخل يدها في أحد ثقوب بطانيتها القديمة وتقول: «واحدة غلبانة زي حالاتي صعبت عليها، جابتلي بطانية قديمة من عندها مليانة خروم بتدخل البرد زي الصواريخ، لكن أنا باحط عليها الكرتون علشان أمنع البرد، هاعمل إيه لازم أستحمل حتى لو الدنيا ثلج هاروح فين!
أسعف القدر جليلة بأن تكون نزيلة لدار زهرة مصر لرعاية كبار السن بلا مأوى وتقول إن قصتها كانت تتمثل فى حياة سعيدة وسط عائلة جميلة، منذ أكثر من ثلاثين عاما ولكن تغيرت الحياة حينما قرر زوجي أن يتركنى فى الشارع بلا مأوى للرجوع لزوجته الأولى بعد علقة موت كسرنى ورمانى فى الشارع.
واردفت جليلة "لم أكن أعرف حاجة عن الشارع وكنت صغيرة جدا على الهم ولكن فى يوم بدون أى مقدمات جيه زوجى من الشغل وضربنى جامد واخدنى معاه وروحنا السيدة زينب قالى استنى هنا وسابنى ومشى من غير ولا جنيه واحد، عشت أسوأ أيام حياتى باكل واشرب على الرصيف بنص بطانية بنام فى الشارع، والشارع كان قاسى جدا عليا لحد ما جات سمر وخدتنى ومن يومها حسيت إنى عايشة بعد صدمة عمرى من أقرب الناس ليا".
وتابعت "أنا مليش أولاد وحياتى كانت لزوجى ومكنتش أعرف غيره وحافظت عليه ولما سابنى كان عندى أمل أنه يرجع وياخدنى معاه وكنت فاكرة إن العشرة هاتحكم عليه ينقذنى ولكن لم أجد أحن عليا من رصيف مسجد السيدة ليكون لى العون فى رحاب مسجد السيدة زينب".
احتواء
ومن جانبها قالت الدكتورة سمر نديم مؤسسة دار زهرة مصر لرعاية الكبار بلا مأوى والتى احتوت تلك الحالات الثلاث وأوجدت لهن المأوى المناسب ولكثيرات غيرهن، فهى ترى أن خدمة الناس لاسيما الكبار منهم هى أسمى رسالة ممكن أن يقدمها الإنسان لذا كانت حريصة دوما على تقديم الرعاية لهم بدون كلل أو ملل.