تعتبر رسائل غسان كنفاني وغادة السمان هي إحدى أشهر وأعمق الرسائل الأدبية في القرن العشرين، وتجسد نوعًا من التواصل الروحي والفكري الذي يتجاوز حدود الزمن والجغرافيا. إنها رسائل مكتوبة بحبر الحب والمعاناة، مليئة بالألم والشوق، وتعكس واقعًا قاسيًا لعلاقة غير مكتملة بسبب الظروف السياسية والاجتماعية. هذه الرسائل تفتح نافذة على عالمين متوازيين: عالم الحب المستحيل، وعالم المقاومة الصلبة.
غسان كنفاني، الأديب والمناضل الفلسطيني الذي لم يتجاوز عمره 36 عامًا عندما اغتاله الموساد الإسرائيلي ببيروت في العام 1972، هو أحد أعمدة الأدب المقاوم. عبر كتاباته وقصصه، كان كنفاني صوتًا للفلسطينيين، ينقل معاناتهم وأحلامهم وتطلعاتهم. لكنه في رسائله إلى غادة السمان، نكتشف جانبًا آخر من شخصيته؛ عاشق من طراز رفيع، يعبر عن مشاعر الحب بصدق وعمق.
في إحدى رسائله إلى غادة، كتب كنفاني: "إنني أحبك إلى درجة أنني أريد أن أضعك في محفظتي، مثل ورقة نقدية أو صورة قديمة، حتى لا تأخذك الرياح بعيدًا". هنا، يظهر غسان كنفاني ليس فقط كمناضل شرس، بل كإنسان يتوق إلى الحنان والاستقرار العاطفي وسط بحر من العواصف السياسية.
كانت رسائل غسان إلى غادة السمان تمثل حبًا في زمن النضال، حيث كان لكل منهما دوره ومسؤوليته تجاه قضيته. كان غسان يرى في غادة رمزًا للحب الذي يحتاجه ليبقى قويًا في مواجهة الاحتلال والظلم. بينما كانت غادة ترى في غسان ملهمًا، يذكرها بأن الحياة لا تقتصر على النضال فقط، بل هي أيضًا مليئة بالحب والجمال.
في إحدى رسائله، كتب غسان: "إنني أحتاجك كما يحتاج المقاتل إلى سلاحه. لا يمكنني أن أكمل دونك، فأنت الزاد الذي يبقيني على قيد الحياة". وفي رسالة أخرى، كتبت غادة: "أنت الحب الذي يسكن في أعمق أعماقي، لكنني أريد أن أكون أنا، أن أعيش حريتي بجانبك، لا في ظلك".
لم تكن علاقة غسان وغادة مجرد علاقة حب عادية، بل كانت حبًا منفيًا، محكومًا بالظروف الصعبة والواقع السياسي المعقد. كان كل منهما يعيش في عالم منفصل، يحاولان جاهدين التواصل عبر الرسائل رغم الفجوة الجغرافية والزمانية بينهما.
كتب غسان في إحدى رسائله: "أشعر أنني غريب في هذا العالم، وأنك الشيء الوحيد الذي يجعلني أشعر بأنني في وطني. حبك هو الوطن الذي أبحث عنه". تعكس هذه الكلمات شعور غسان بالغربة، ليس فقط كشخص منفي عن وطنه فلسطين، بل أيضًا كعاشق منفي عن حبيبته.
كان الحب بين غسان وغادة مليئًا بالصراعات الداخلية. فغسان، بالرغم من حبه الكبير لغادة، كان يدرك أن واجبه تجاه وطنه يأتي أولًا. في إحدى رسائله، يعترف: "أحبك، لكنني لا أستطيع أن أترك النضال. فلسطين تحتاجني أكثر منك. هذه هي الحقيقة التي أعيشها كل يوم". وفي هذا الإطار، كانت غادة تعيش صراعًا مشابهًا، حيث كانت تحاول التوفيق بين حبها لغسان ورغبتها في الحفاظ على حريتها الشخصية.
كانت رسائل غسان وغادة تشبه رحلة طويلة في بحر من المشاعر المتناقضة. لكن في النهاية، كان عليهما أن يقبلا بفراق لا مفر منه. لم يكن الفراق ناتجًا عن نقص في الحب، بل كان نتيجة حتمية للظروف الصعبة التي عاشاها.
في رسالته الأخيرة، كتب غسان: "أعلم أنني سأرحل قريبًا، لكنني أريدك أن تعلمي أنني أحببتك بكل ما في قلبي. أنتِ الحب الذي منحني القوة لأستمر، حتى في أحلك اللحظات. وداعًا، يا حبيبة قلبي". وفي ردها، كتبت غادة: "أعلم أن الفراق كان حتميًا، لكنني سأحتفظ بحبك في قلبي إلى الأبد. لقد كنت الحب الذي أضاء حياتي، حتى وإن كان للحظات قليلة".
رغم كل التحديات والصعوبات التي واجهها غسان كنفاني وغادة السمان، إلا أن حبهما لم يمت. بل تحول إلى رمز للحب الذي يتحدى الزمن والظروف. هذا الحب الذي عاش في الرسائل، لم يكن مجرد حب بين رجل وامرأة، بل كان حبًا للوطن، للحرية، للحياة.
إن رسائل غسان وغادة تُخبرنا بأن الحب، قوة تملأ الحياة بالمعنى والهدف. وهو أيضًا تجربة تعلمنا الكثير عن أنفسنا وعن الآخرين. وكما كتب غسان في إحدى رسائله: "الحب هو الحياة التي نعيشها بكل ما فيها من ألم وفرح. هو القوة التي تجعلنا نستمر حتى عندما تكون الحياة قاسية وغير عادلة".