في حب نجيب محفوظ ومحبيه
أمينة النقاش
أمس مرت الذكرى الثامنة عشرة لرحيل نجيب محفوظ، وقبل أيام مرَّ العيد التسعون لمولد رجاء النقاش. علاقة حب متبادلة من نوع خاص، ظلت هى نمط العلاقة التى ربطت بين الكاتبين حتى النهاية. كان رجاء النقاش فى الخامسة عشرة من عمره، حين قرأ له روايته الأولى "رادوبيس" وفتن بها، حين اختلى بنفسه تحت شجرة جميز على شاطئ النيل فى قريتنا منية سمنود ، إحدى قرى مدينة المنصورة، ولم يترك مكانه قبل الانتهاء من قراءتها، بعد مغيب شمس النهار. ومنذ ذلك النهار، لم يتوقف رجاء عن قراءة كل ما يكتب نجيب محفوظ ، ومتابعة كل ما يقول فى أحاديثه الصحفية والتليفزيونية، كما لم يكف عن الكتابة عنه وعن أعماله فى معظم الكتب التى أصدرها.
وصف رجاء النقاش فى كتاباته نجيب محفوظ بأنه "من هؤلاء الفنانين الكبار الذين تنجبهم الحياة، وكأنها تريد بظهورهم أن تحافظ على وجودها، فلو لم يوجد نجيب محفوظ، لما أتيح للمجتمع الحديث فى مصر، أن يجد تسجيلًا لعواطفه وأزماته وتطوراته الروحية بكل هذه الخصوبة والعمق.. ومما لا شك فيه أن مصر الحديثة لا يمكن فهمها بدون قراءة نجيب حفوظ ".
ربما لا يعرف كثيرون أن نجيب محفوظ كان سمي لرائد طب النساء والولادة، فى الجامعات المصرية الدكتور نجيب مخائيل باشا محفوظ الذى أشرف على ولادته، وأصر أبوه عبد العزيز إبراهيم على أن يحمل ابنه اسما مركبا تيمنا بالطبيب النابغة. وقد أصدرالدكتور محفوظ سيرته الذاتية فى كتاب بديع صدر قبل عقود بالإنجليزية والعربية بعنوان " حياة طبيب".
فى بداية التسعينات، قبل رجاء النقاش بترحيب وحماس بالغين العرض الذى تقدمت به إليه الأستاذة نوال المحلاوى مدير مركز الأهرام للترجمة والنشر للقيام بإجراء عدة حوارات موسعة مع نجيب محفوظ تتناول حياته وأعماله الإدبية .
وحين عرض المركز الفكرة بعد ذلك على نجيب محفوظ رحب بها كثيرا، وأبدى استعداده،لإعطاء ذلك المشروع كل ما يحتاجه من وقت وجهد. وعلى مدار نحوعام ونصف بدأت اللقاءات بين الكاتبين أربعة أيام من كل أسبوع، على مقهى على بابا فى التحرير، حيث سجل رجاء خلالها نحو خمسين ساعة من ردود نجيب محفوظ على أسئلته، وقامت صحيفة الأهرام بنشر تلك الأحاديث تباعًا على صفحاتها، قبل أن تصدر بعد ذلك فى كتاب تحت عنوان "نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته اضواء جديدة على أدبه وحياته"، الذى يعد الكتاب الأهم والأكثر دقة عن سيرة حياة محفوظ وسيرة رواياته وقصصه.
مع صدور كتاب رجاء النقاش، سعى بعض صغار النفوس، ممن أوجعهم أن يصطفى نجيب محفوظ من بين كل من يحيطون به فى الوسط الثقافى، رجاء النقاش ليكتب سيرته، للإيقاع بين الرجلين. وكتب بعضهم ما يدعى أن الكتاب انطوى على وقائع لم يذكرها نجيب محفوظ، لكن فطنة نجيب أفشلت كل الإدعاءات حين أكد فى كل مناسبة أن ما ورد فى الكتاب قد قاله، كما أنهى بالتصالح قضية كان قد أقامها بتحريض من هؤلاء الصغار، أحد أقربائه متهمًا إياه بإهانته هو الأسرة حين أشار فى الكتاب بسخريته المعهودة إلى سرقة بعض أفرادها لصورتاريخية للعائلة!
أرسى نجيب محفوظ فى أدبه، وفى الحياة قيمًا رفيعة، ومثلًا عليا تحتذى فى كل مكان وزمان بتواضعه الجم وخلقه الرفيع. وقدم نموذجا للمثقف الذى يستطيع بجهده ومواهبه أن يصل إلى مكانته الأدبية الرفيعة محليا ودوليا، وحافظ على استقلاله، ولم يتنازل عما يعتقد أنه الصواب من أجل منافع بسيطة أو كبيرة. وظل حتى بعد حيازته لنوبل يسكن شقته البسيطة المتواضعة فى حى العجوزة حتى وفاته، التى لم أفهم حتى الآن لماذا لم تصبح هى المقر لمتحفه، لاسيما أنه عاش بها طويلا وشهدت مولد معظم رواياته.
المشترك بين الناقد والروائى بجانب الموهبة، هو أنهما صناعة للكد والعرق والاجتهاد والعمل المستمر. وتبقى سيرتهما كما قال الفقيه والمؤرخ ابن الجوزى عن ذكر السير أنها “ راحة للقلب وجلاء للهمم وتنبيه للعقول”.